التفاسير

< >
عرض

وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨
وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
٩
هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ
١٠
يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
١١
وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
١٢
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
١٣
-النحل

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ حماد ويحيى عن أبي بكر عن عاصم ننبت بالنون والباقون بالياء, وقرأ ابن عامر والشمس والقمر والنجوم مسخرات كلها بالرفع وقرأ حفص عن عاصم والشمس والقمر بالنصب والنجوم مسخرات بالرفع وقرأ الباقون كل ذلك بالنصب.
الحجة: من قرأ ينبت بالياء فلما تقدم من قوله: { هو الذي أنزل } فالياء أشكل بما تقدم من الإفراد والنون لا يمتنع أيضاً ويقال نبت البقل وأنبته الله قال أبو علي والنصب في قوله: { والشمس والقمر } أحسن ليكون معطوفاً على ما قبله وداخلاً في إعرابه ألا ترى أن ما في التنزيل من نحو قوله:
{ { وكلا ضربنا له الأمثال } [الفرقان: 39] و { { والظالمين أعدَّ لهم عذاباً أليماً } [الإنسان: 31] يختار فيه النصب ليكون مثل ما يعطف عليه ومشاكلاً له فكذلك هنا إذا حمل ذلك على التسخير كان أشبه, فإن قلت فقد جاء مسخرات بعد هذه الأشياء المنصوبة المحمولة على سخر فإن ذلك لا يمتنع لأن الحال تكون مؤكدة ومجيء الحال مؤكدة في التنزيل وغيره كثير كقوله: { { وهو الحق مصدقاً } [فاطر: 31] وأنا ابن دارة معروفاً:

وكفى بالنأي من أسماء كاف

ويقوي النصب قوله تعالى: { وسخر لكم الشمس والقمر } دائبين فكما حمل هنا على التسخير كذلك في الأخرى وكذلك النجوم قد حملت على التسخير في قوله: { { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } [الأنعام: 97] وكان ابن عامر قطعه عن سخر لئلا يجعل الحال مؤكدة فابتدأ الشمس والقمر النجوم وجعل مسخرات خبراً عنها ويدل على جواز ذلك أنه إذا جاء سخر لكم الشمس والقمر والنجوم علم من هذا أنها مسخرات فجاز الإخبار بالتسخير عنها لذلك وأما حفص فإنما رفع والنجوم مسخرات لأنه لا يصح أن يقال وسخر النجوم مسخرات فقطعها مما قبلها فعلى هذا يكون حجة من نصب أن يقدر فعلاً آخر وتقديره وجعل النجوم مسخرات.
اللغة: القصد استقامة الطريق يقال طريق قصد وقاصد إذا قصد إلى ما يريد والجائز المائل عن الحق والشجر ما ينبت من الأرض وقام على ساق وله ورق وجمعه أشجار ومنه المشاجرة لتداخل بعض الكلام في بعض كتداخل ورق الشجر, وقال الأزهري الشجر ما ينبت من الأرض قام على ساق أو لم يقم تسيمون من الإسامة يقال أسمت الإبل إذا رعيتها وأطلقتها فترعى متصرفة حيث شاءت وسامت هي إذا رعت وهي تسوم وإبل سائمة ويقال سمتها إذا قصرتها على مرعى بعينه وسمتها الخسف إذا تركتها على غير مرعى ومنه قيل سيم فلان خسفاً إذا ذل واهتضم قال الكميت في الإسامة:

راعِياً كانَ مُسْجِحاً فَفَقَدْناهُ وَفَقـْـدُ الْمُسِيـمِ هُلْكُ السَّوامِ

وقال آخر:

وَأَسْكُنُ ما سَكَنْتُ بِبَطْـنِ وادٍ وَأَظْعــَنُ إنْ ظَعَنْتُ فَلا أسيمُ

وذهب قوم إلى أن السوم في البيع من هذا لأن كل واحد من المتبايعين يذهب فيما يبيعه من زيادة ثمن أو نقصانه إلى ما يهواه كما تذهب السائمة حيث شاءت. وقد جاء في الحديث: "لا سوم قبل طلوع الشمس" فحمله قوم على أن المواشي لا تسام قبل طلوع الشمس لئلا تنتشر وحمله آخرون على أن البيع في ذلك مكروه لأن المبيع لا تنكسر عيوبه فيدخل في بيع الغرر المنهي عنه, والذرأ إظهار الشيء بإيجاده يقال ذرأه يذرأه وذرأه وفطره وأنشأه نظائر وملح ذرء أي ظاهر البياض.
الإعراب: نصب الخيل والبغال والحمير على أنها مفعول في المعنى أي وخلق الخيل والبغال والحمير ونصب زينة لأنها مفعول لها. وخلقها زينة وما ذرأ "ما" بمعنى الذي وموضعه نصب على تقدير وخلق ما ذرأ لكم وقيل هو في موضع الجر بالعطف على ذلك أي أن في ذلك ما ذرأ لكم. مختلفاً نصب على الحال وألوانه فاعله.
المعنى: ثم عطف سبحانه على ما عدَّده من صنوف إنعامه فقال: { والخيل } أي وخلق لكم الخيل { والبغال والحمير لتركبوها } في حوائجكم وتصرفاتكم { وزينة } أي ولتتزينوا بها مَنَّ الله تعالى على خلقه بأن خلق لهم من الحيوان ما يركبونه ويتجملون به وليس في هذا ما يدل على تحريم أكل لحومها. وقد روى البخاري في الصحيح مرفوعاً إلى أسماء بنت أبي بكر قالت: أكلنا لحم فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ ويخلق ما لا تعلمون } من أنواع الحيوان والنبات والجماد لمنافعكم { وعلى الله قصد السبيل } أي بيان قصد السبيل عن ابن عباس ومعناه واجب على الله في عدله بيان الطريق المستقيم وهو بيان الهدى من الضلالة والحلال من الحرام ليتبع الهدى والحلال ويجتنب الضلالة والحرام وهذا مثل قوله إنَّ علينا للهدى.
{ ومنها جائر } معناه من السبيل ما هو جائر أي عادل عن الحق { ولو شاء لهداكم أجمعين } إلى قصد السبيل بالإلجاء والقهر فإنه قادر على ذلك وقيل معناه لهداكم إلى الجنة والثواب تفضلاً عن الجبائي وأبي مسلم وقيل إن معنى الآية وعلى الله الممر ومن الطريق التي الممر فيها على الله جاء وكلاهما على الله لا يخرج أحداً عن قبضته وحكمه كقوله:
{ { إن ربك لبالمرصاد } [الفجر: 14] وقيل على الله ممر ذي السبيل القصد والسبيل الجائر وإليه مرجع كل واحد منهما لا يخرج واحد عن سلطانه ولو أراد أن يحمل الجميع على الحق لفعل, ومن عدل عن الطريق المستقيم فليس ذلك لعجز من الله تعالى.
ثم عدَّ سبحانه نعمة أخرى دالَّة على وحدانيته فقال: { هو الذي أنزل من السماء ماء } أي مطراً { لكم منه شراب } أي لكم من ذلك الماء شراب تشربونه { ومنه شجر } فيه وجهان أحدهما: أن يكون المراد ومنه شرب شجر أو سقي فحذف المضاف والآخر: أن يكون المراد ومن جهة الماء شجر ومن سقيه وإنباته شجر فحذف المضاف إلى الهاء في منه كما قال زهير:

أَمِنْ أُمِّ أَوْفى دِمْنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ بِحَوْمانَةِ الدَّرَّاجِ فَالْمُتَثَلَّمِ

أي أمن ناحية أم أوفى وقال أبو ذؤيب:

أمِنْكَ الْبَرْقُ أرْقُبُهُ فَهاجا فَبـِتُّ إخالُهُ دُهْماً خِلاجا

أي أمن جهتك وقال الجعدي:

لِمَــنِ الدِّيــارُ عَفَوْنَ بِالتَّهْطالِ بَقِيَتْ عَلى حِجَجٍ خَلَوْنَ طِوالِ

أي على مر حجج والمعنى وينبت منه شجر ونبات: { فيه تسيمون } أي ترعون أنعامكم من غير كلفة والتزام مؤنة لعلفها { ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات } أي ينبت الله لكم بذلك المطر هذه الأشياء التي عددَّها لتنتفعوا بها { إن في ذلك لآية } أي دلالة وحجة واضحة { لقوم يتفكرون } فيه فيعرفون الله تعالى به وخصَّ المتفكرين فيه لأنهم المنتفعون به.
{ وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر } قد مضى بيانه والتسخير في الحقيقة للشمس والقمر لأن النهار هو حركات الشمس من وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس والليل حركات الشمس تحت الأرض من وقت غروب الشمس إلى وقت طلوع الفجر إلا أنه سبحانه أجرى التسخير على الليل والنهار على سبيل التجوز والاتساع { والنجوم مسخرات بأمره } مضى بيانه: { إن في ذلك } التسخير { لآيات } أي دلالات { لقوم يعقلون } عن الله وينبئون أن التسخير لذلك على هذا تقدير الذي لا يختلف لأجل منافع خلقه ومصالحهم والمدبر لذلك قادر عالم حكيم { وما ذرأ لكم في الأرض } أي سخَّر لكم ما خلقه لكم في الأرض أي لقوام أبدانكم من الملابس والمطاعم والمناكح من أنواع الحيوان والنبات والمعادن وسائر النعم { مختلفاً ألوانه } لا يشبه بعضها بعضاً { إن في ذلك لآية } أي دلالة { لقوم يذكرون } أي يتفكرون في الأدلة فينظرون فيها ويتعظون ويعتبرون بها.