التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ
٦١
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ
٦٢
تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٦٣
وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٦٤
وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
٦٥
-النحل

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ نافع وقتيبة عن الكسائي مفرطون ساكنة الفاء مكسورة الراء خفيفة وقرأ أبو جعفر (ع) مفرّطون مفتوحة الفاء مكسورة الراء مشددة والباقون مفرطون ساكنة مفتوحة الراء خفيفة وروي عن الأعرج بفتح الراء وتشديده.
الحجة: قال الزجاج أما تفسير مفرطون فجاء عن ابن عباس متروكون وقيل معجلون ومعنى الفرط في اللغة التقدم وقد فرط منّي قول أي تقدّم فمعنى مفرَّطون مقدَّمون إلى النار وكذلك مُفَّرطون بالتشديد ومن فسر متروكون فهو كذلك أي قد جعلوا مقدمين في العذاب أبداً متروكين فيه ومن قرأ مُفرّطون فالمعنى أنه وصفهم الله بأنهم فرطوا في الدنيا ولم يعملوا فيها للآخرة وتصديقه قوله
{ { يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله } [الزمر: 56] ومن قرأ مُفْرطون فالمراد أنهم أفرطوا في معصية الله كما تقول أفرط فلان في مكروهي وتأويله أنه آثر العجز وقدمه قال أبو علي وكأنه من أفرط أي صار ذا فرط مثل أقطف وأجرب فهو مقطف ومجرب فمعناه أنهم ذوو فرط إلى النار وسبق إليها.
الإعراب: الكذب مفعول تصف وأن لهم الحسنى بدل من الكذب وتقديره وتصف ألسنتهم أن لهم الحسنى أي تصفون أن لهم مع هذا الفعل القبيح الجزاء الحسن وأن لهم النار في موضع نصب بجرم والمعنى جرم فعلهم هذا أي كسب أن لهم النار وقيل إنَّ أن في موضع رفع عن قطرب قال معناه أنه وجب أن لهم النار وأنهم مفرطون فيها لتبين لهم أي لأن تبين لهم الجار والمجرور في محل النصب بأنه مفعول له, وكذلك قوله وهدى ورحمة وكلاهما معطوف على ما قبله بأنه مفعول له أيضاً أي أنزلنا عليك الكتاب بياناً وهدى ورحمة قال الزجاج ويجوز في هذا الموضع وهدى ورحمة بالرفع فيكون المعنى وما أنزلنا عليك الكتاب إلا للبيان وهو مع ذلك هدى ورحمة.
المعنى: { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة } أخبر سبحانه أنه لو كان ممن يؤاخذ الكفار والعصاة بذنوبهم ويعاجلهم بالعقوبة لما ترك على وجه الأرض أحداً ممن يستحق ذلك من الظالمين, وإنما قال عليها ولم يجز ذكر للأرض في الظاهر لأن الكلام يدل عليه فإن العلم حاصل بأن الناس يكونون على ظهر الأرض ومثله كثير في محاورات العرب يقولون ما بين لابتيها مثل فلان يعنون المدينة وأصبحت باردة يريدون الغداة إذ اللابتان بالمدينة والإصباح لا يكون إلا غدوة.
وقولـه: { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } أي يمهلهم إلى وقت معلوم مسمى وهو يوم القيامة وقيل إلى وقت يعلمه الله تعالى أنه لا يكون في بقائهم فيه مصلحة لأنهم لا يؤمنون ولا يخرج من نسلهم مؤمن وإنما يؤخرهم تفضلاً منه سبحانه ليراجعوا التوبة أو لما في ذلك من المصلحة واختلف أهل العدل في مَنِ المعلومُ من حاله أنه لا يؤمن فيما بعد هل يجوز احترامه فقال بعضهم يجوز لأن التكليف تفضل فلا تجب تبقية وهو قول أبي هاشم, وإليه ذهب المرتضى قدس الله روحه وقال آخرون لا يجوز احترامه ويجب تبقيته وهو قول البلخي وأبي علي الجبائي وإن اختلفا في علته فقال الجبائي: لأنه مفسدة وقال البلخي لأنه الأصلح, وإليه ذهب الشيخ المفيد أبو عبد الله وقيل إن معنى الآية لو يؤاخذهم بذنوبهم لحبس المطر عنهم حتى تهلك كل دابة عن السدي وعكرمة.
"سؤال" متى قيل إن المكلف الظالم يستحق العقوبة بظلمه فما بال الحيوانات تؤخذ بغير جرم.
"فجوابه" أن العذاب للظالم عقوبة ولغير الظالم عبرة ومحنة فيكون كالأمراض النازلة بالأولياء وغير المكلفين فيعوّضون عنها وقيل معناه لو هلك الآباء بكفرهم لم يوجد الأبناء وقيل إنه إذا هلك الظلمة ولم يبق مكلف لا يبقى غيرهم من الحيوانات لأنها إنما خلقت للمكلفين فلا فائدة في بقائها بعدهم.
{ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } قد سبق معناه فيما مضى ثم حكى سبحانه عن الكفار فقال { ويجعلون لله ما يكرهون } يعني البنات أي يحكمون لله بما يكرهونه لأنفسهم { وتصف ألسنتهم الكذب } أي وتخبر ألسنتهم بالكذب وهو ما يقولون { أن لهم الحسنى } وهي البنون عن مجاهد وقيل معناه تصفون أن لهم مع قبيح قولهم من الله الجزاء الحسن والمثوبة الحسنى وهي الجنة عن الزجاج وغيره. فإن المشركين كانوا يقولون إن كان ما يقوله محمد من أمر البعث والآخرة حقاً فنحن من أهل الجنة. وروي عن معاذ أنه قرأ وتصف ألسنتهم الكذُب بضم الذال والباء فعلى هذا يكون الكذب وصفاً للألسنة جمع كاذب أو كذوب ثم ردَّ سبحانه قولهم فقال { لا جرم أن لهم النار } أي ليس الأمر على ما وصفوا جرم فعلهم وقولهم أي كسب أن لهم النار والمفسرون يقولون معناه حقاً أن لهم النار أو لا بد أن لهم النار { وأنهم مفرطون } أي مقدمون أي معجلون إلى النار.
ثم أقسم سبحانه فقال { تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك } يا محمد { فزين لهم الشيطان أعمالهم } أي كفرهم وضلالهم وتكذيبهم الرسل { فهو وليهم اليوم } معناه أن الشيطان وليهم اليوم في الدنيا يتولونه ويتبعون إغوائه فأما يوم القيامة فيتبرأ بعضهم من بعض عن أبي مسلم وقيل معناه فهو وليهم يوم القيامة أي يكلهم الله تعالى إلى الشيطان أياساً لهم من رحمته { ولهم عذاب أليم } أي وللتابع والمتبوع عذاب مؤلم وجيع.
ثم بيّن سبحانه أنه قد أقام الحجة وأزاح العلة وأوضح المحجة فقال { وما أنزلنا عليك } يا محمد { الكتاب } أي القرآن { إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه } معناه إلا وقد أردنا منك أن تكشف لهم ما اختلفوا فيه من دلالة التوحيد والعدل وتبين لهم الحلال والحرام { وهدى } أي وأنزلناه دلالة على الحق { ورحمة لقوم يؤمنون }
ثم أخبر سبحانه عن نعمته على خلقه فقال { والله أنزل من السماء ماء } أي غيثاً ومطراً { فأحيا به } أي بذلك الماء { الأرض بعد موتها } أحياها بالنبات بعد جدوبها وقحطها { إن في ذلك لآية } أي حجة ودلالة { لقوم يسمعون } أي يستصغون أدلة الله ويتفكرون فيها ويعتبرون بها.