التفاسير

< >
عرض

ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٧٥
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٧٦
وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٧٧
-النحل

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: في الشواذ قراءة ابن مسعود وعلقمة والحسن ومجاهد أينما يُوَجِّهْ وروي عن علقمة يُوَجَّهْ بفتح الجيم.
الحجة: قال ابن جني أما يُوَجِّه بكسر الجيم فعلى حذف المفعول أي أينما يوجه وجهه فحذف للعلم به وأقول أن نظيره ما جاء في المثل "أينما أوجه ألق سعداً" ومعناه أينما أوجه وجوه ركابي وسعد قبيلته أي كل الناس مثل قبيلتي في التحاسد وأما يوجّه بفتح الجيم فمعناه أينما يرسل أو يبعث لا يأت بخير.
اللغة: الأبكم الذي يولد أخرس لا يفهم ولا يفهم وقيل الأبكم الذي لا يمكنه أن يتكلم والكل الثقل يقال كلّ عن الأمر يكل كلاً إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه وكلت السكين كلولاً إذا غلظت شفرتها وكلَّ لسانه إذا لم ينبعث في القول لغلظه وذهاب حده فالأصل فيه الغلظ المانع من النفوذ والتوجيه الإرسال في وجه من الطريق يقال وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه.
الإعراب: { ومن رزقناه منا رزقاً حسناً } رزقاً مفعول ثان لرزقناه وفي هذا دليل على أن رزق يتعدى إلى مفعولين ألا ترى أن قوله رزقاً حسناً لو كان مصدراً لما جاز أن يقول فهو ينفق منه لأن الإنفاق إنما يكون من المال لا من الحدث الذي هو المصدر.
المعنى: ثم بيَّن سبحانه للمشركين أمر ضلالتهم فقال { ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء } أي بيَّن الله مثلاً فيه بيان المقصود تقريباً للخطاب إلى أَفهامهم ثم ذكر ذلك فقال عبداً مملوكاً لا يقدر من أمره على شيء { ومن رزقناه منا رزقاً حسناً } يريد وحُرّاً رزقناه وملكناه مالاً ونعمة { فهو ينفق منه سراً وجهراً } لا يخاف من أحد { هل يستوون } ولم يقل يستويان لأنه أراد بقوله: { ومن رزقناه } وقوله: { عبداً مملوكاً } الشيوع في الجنس لا التخصيص يريد أن الاثنين المتساويين في الخلق إذا كان أحدهما مالكاً قادراً على الإنفاق والآخر عاجزاً عن الإنفاق لا يستويان فكيف يستوي بين الحجارة التي لا تعقل ولا تتحرك وبين الله عز اسمه القادر على كل شيء الخالق الرازق لجميع خلقه وهذا معنى قول المجاهد والحسن.
وقيل إن هذا المثل للكافر والمؤمن فإن الكافر لا خير عنده والمؤمن يكسب الخير عن ابن عباس وقتادة نبَّه الله سبحانه بذلك على اختلاف حاليهما ودعا إلى حال المؤمن وصرف عن حال الكافر.
{ الحمد لله } أي الشكر لله على نعمه وفيه إشارة إلى أن النعم كلها منه وقيل معناه قولوا الحمد لله الذي دلّنا على توحيده ومعرفته وهدانا إلى شكر نعمته وأوضح لنا السبيل إلى جنته { بل أكثرهم لا يعلمون } يعني أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون أن الحمد لي وأن جميع النعمة مني.
ثم ضرب سبحانه مثلاً آخر فقال { وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء } من الكلام لأنه لا يفهم ولا يفهم عنه وقيل معناه لا يقدر أن يدبر أمر نفسه { وهو كل على مولاه } أي ثقل ووبال على وليه الذي يتولى أمره { أينما يوجهه لا يأت بخير } معناه أنه لا منفعة لمولاه فيه أينما يرسله في حاجة لا يرجع بخير ولا يهتدي إلى منفعة { هل يستوي هو } أي هذا الأبكم الموصوف بهذه الصفة { ومن يأمر بالعدل } أي ومن هو فصيح يأمر بالعدل والحق ويدعو إلى الثواب والبر { وهو على صراط مستقيم } أي على دين قويم وطريق واضح فيما يأتي به ويذر والمراد أنهما لا يستويان قط لأنه لا جواب لهذا الكلام إلا النفي وهذا كما قال
{ { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } [السجدة: 18].
وقيل في معنى هذا المثل أيضاً قولان أحدهما: أنه مثل ضربه الله تعالى فيمن يؤمل الخير من جهته ومن لا يؤمل منه وأصل الخير كله من الله تعالى فكيف يستوي بينه وبين شيء سواه في العبادة والآخر: أنه مثل للكافر والمؤمن فالأبكم الكافر والذي يأمر بالعدل المؤمن عن ابن عباس وقيل إن الأبكم أبي بن خلف ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن مظعون عن عطاء وقيل إن الأبكم هاشم بن عمر بن الحارث القرشي وكان قليل الخير يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقاتل.
ثم وصف سبحانه نفسه مؤكداً لما قدم ذكره من أوصاف الكمال فقال { ولله غيب السماوات والأرض } ومعناه أنه المختص بعلم الغيب وهو ما غاب عن جميع الخلائق مما يصح أن يكون معلوماً قال الجبائي ويمكن أن يكون المعنى ولله ما غاب عنكم مما في السماوات والأرض ثم قال { وما أمر الساعة } في قدرته { إلا كلمح البصر } أي كطرف العين وقيل كرد البصر قال الزجاج وما أمر إقامة الساعة في قدرته إلا كلمح البصر أي لا يتعذر عليه شيء { أو هو أقرب } من ذلك وهو مبالغة في ضرب المثل به في السرعة ودخول أو هنا لأحد أمرين إما للإبانة على أنه على إحدى هاتين المنزلتين وإما لشك المخاطب وقيل معناه بل هو أقرب { إن الله على كل شيء قدير } فهو قادر على إقامة الساعة وعلى كل شيء يريده لأن القدير مبالغة في صفة القادر.
النظم: وجه اتصاله بما قبله أن أمر القيامة من الأمور الغائبة ومن أعظمها وأهمها لما فيه من الثواب والعقاب والإنصاف والانتصاف والساعة اسم لإماتة الخلق وإحيائهم.