التفاسير

< >
عرض

وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً
١٠٦
قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً
١٠٧
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً
١٠٨
وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً
١٠٩
قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً
١١٠
وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ ٱلذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً
١١١
-الإسراء

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: القراءة المشهورة في فرقناه بالتخفيف وروي عن علي (ع) وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب والشعبي والحسن بخلاف وقتادة وعمرو بن فائد فرَّقناه بالتشديد.
الحجة: معنى فرَّقناه فصَّلناه ونزَّلناه آية آية وسورة سورة ويدل عليه قوله على مكث والمكث والمُكث لغتان.
الإعراب: قرآنا منصوب بفعل مضمر يفسره هذا الظاهر أي وفرقنا قرآنا وجاء بالنصب ولم يأت فيه الرفع لأن صدره فعل وفاعل وهو قوله: وبالحق أنزلناه على مكث في موضع نصب على الحال أي متمهلاً متوقفاً غير مستعجل يخّرون للأذقان في موضع رفع بكونه خبر إن وسجداً نصب على الحال إن كان وعد ربنا إنْ هذه مخففة من الثقيلة وهي واللام دخلتا للتأكيد أياً ما تدعوا تدعوا مجزوم بالشرط الذي يتضمنه أيُّ وعلامة الجزم فيه سقوط النون وما مزيدة مؤكدة للشرط وأياً منصوب بتدعوا.
المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدَّم فقال: { وقرآنا فرقناه } أي وأنزلنا عليك يا محمد قرآنا فصَّلناه سوراً وآيات عن أبي مسلم, وقيل معناه فرقنا به الحق عن الباطل عن الحسن وقيل معناه جعلنا بعضه خبراً وبعضه أمراً وبعضه نهياً وبعضه وعداً وبعضه وعيداً وأنزلناه متفرقاً لم ننزله جميعاً إذ كان بين أوله وآخره نيف وعشرين سنة { لتقرأه على الناس على مكث } أي على تثبت وتؤدة فترتله ليكون أمكن في قلوبهم ويكونوا أقدر على التأمل والتفكر فيه ولا تعجل في تلاوته فلا يفهم عنك عن ابن عباس ومجاهد وقيل معناه لتقرأه عليهم مفرقاً شيئاً بعد شيء: { ونزلناه تنزيلاً } على حسب الحاجة ووقوع الحوادث. وروي عن ابن عباس أنه قال: لئن أقرأ سورة البقرة وأرتلها أحب إليَّ من أن أقرأ القرآن هذّاً وعن عبد الله بن مسعود أنه قال لا تقرأوا القرآن في أقل من ثلاث واقرأوا في سبع.
{ قل } يا محمد لهؤلاء المشركين: { آمنوا به } أي بالقرآن: { أولا تؤمنوا } فإن إيمانكم ينفعكم ولا ينفع غيركم وترككم الإيمان يضرُّكم ولا يضرُّ غيركم وهذا تهديد لهم وهو جواب { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا }
{ إن الذين أوتوا العلم من قبله } أي أعطوا علم التوراة من قبل نزول القرآن كعبد الله ابن سلام وغيره فعلموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه عن ابن عباس وقيل إنهم أهل العلم من أهل الكتاب وغيرهم وقيل إنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن الحسن { إذا يتلى عليهم } القرآن { يخُّرون للأذقان سجداً } أي يسقطون على الوجوه ساجدين عن ابن عباس وقتادة وإنما خصَّ الذقن لأن من سجد كان أقرب شيء منه إلى الأرض ذقنه والذقن مجمع اللحيين.
{ ويقولون سبحان ربنا } أي تنزيهاً لربنا عز اسمه عما يضيف إليه المشركون: { إن كان وعد ربنا لمفعولاً } إنه كان وعد ربنا مفعولاً حقاً يقيناً ولم يكن وعد ربنا إلا كائناً.
{ ويخرون للأذقان يبكون } أي ويسجدون باكين إشفاقاً من التقصير في العبادة وشوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب { ويزيدهم } ما في القرآن من المواعظ { خشوعاً } أي تواضعاً لله تعالى واستسلاماً لأمر الله وطاعته ثم قال سبحانه { قل } يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين نبوتك: { ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } وذكر في سببه أقوال أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ساجداً ذات ليلة بمكة يدعو يا رحمن يا رحيم فقال المشركون هذا يزعم أن له آلهاً واحداً وهو يدعو مثنى مثنى عن ابن عباس وثانيها: أن المشركين قالوا أما الرحيم فنعرفه وأما الرحمن فلا نعرفه عن ميمون بن مهران وثالثها: أن اليهود قالوا إن ذكر الرحمن في القرآن قليل وهو في التوراة كثير عن الضحاك.
{ أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } معناه أيُّ أسمائه تدعو وما ها هنا صلة كقوله
{ { عما قليل ليصبحن نادمين } [المؤمنون: 40] وقيل هي بمعنى أيُّ شيء كررت مع أيّ لاختلاف اللفظين توكيداً كما قالوا ما رأيت كالليلة ليلة وتقديره أيُّ شيء من أسمائه تدعونه به كان جائزاً فإن معنى أو في قوله أو ادعوا الرحمن الإباحة أي إن دعوتم بأحدهما كان جائزاً وإن دعوتم بهما كان جائزاً فله الأسماء الحسنى فإن أسماءه تنبىء عن صفات حسنة وأفعال حسنة. فأما أسماؤه المنبئة عن صفات ذاته فهو القادر العالم الحي السميع البصير القديم, وأما أسماؤه المنبئة عن صفات أفعاله الحسنة فنحو الخالق والرازق والعدل والمحسن والمجمل والمنعم والرحمن والرحيم, وأما ما أنبأ عن المعاني الحسنة فنحو الصمد فإنه يرجع إلى أفعال عباده وهو أنهم يصمدونه في الحوائج ونحو المعبود والمشكور بيَّن سبحانه في هذه الآية أنه شيء واحد وإن اختلفت أسماؤه وصفاته وفي الآية دلالة على أن الاسم عين المسمى وعلى أن تقديم أسمائه الحسنى قبل الدعاء والمسألة مندوب إليه مستحب وفيها أيضاً دلالة على أنه سبحانه لا يفعل القبائح مثل الظلم وغيره لأن أسماءه حينئذ لا تكون حسنة فإن الأسماء قد تكون مشتقة من الأفعال فلو فعل الظلم لاشتق منه اسم الظالم كما اشتق من العدل العادل وقوله: { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } اختلف في معناه على أقوال أحدها: أن معناه لا تجهر بإشاعة صلاتك عند من يؤذيك ولا تخافت بها عند من يلتمسها منك عن الحسن وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى فجهر في صلاته تسمع له المشركون فشتموه وآذوه فأمره سبحانه بترك الجهر وكان ذلك بمكة في أول الأمر وبه قال سعيد بن جبير وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع).
وثانيها: أن معناه لا تجهر بدعائك ولا تخافت بها ولكن بين ذلك فالمراد بالصلاة الدعاء عن مجاهد وعطاء ومكحول ونحوه روي عن ابن عباس.
وثالثها: أن معناه لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها.
{ وابتغ بين ذلك سبيلاً } بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار عن أبي مسلم ورابعها: لا تجهر جهراً يشغل به من يصلي بقربك ولا تخافت بها حتى لا تسمع نفسك عن الجبائي وقريب منه ما رواه أصحابنا عن أبي عبد الله (ع) أنه قال الجهر بها رفع الصوت شديداً والمخافتة ما لم تسمع أذنيك وأقرأ قراءة وسطاً ما بين ذلك وابتغ بين ذلك سبيلاً أي بين الجهر والمخافتة ولم يقل بين ذينك لأنه أراد به الفعل فهو مثل قوله:
{ { عوان بين ذلك } [البقرة: 68].
{ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً } فيكون مربوباً لا رباً لأن رب الأرباب لا يجوز أن يكون له ولد { ولم يكن له شريك في الملك } فيكون عاجزاً محتاجاً إلى غيره ليعينه ولا يجوز أن يكون الإله بهذه الصفة { ولم يكن له ولي من الذل } أي لم يكن له حليف حالفه لينصره على من يناوئه لأن ذلك من صفة الضعيف العاجز ولا يجوز أن يكون الإله بهذه الصفة قال مجاهد لم يذل فيحتاج إلى من يتعزز به يعني أنه القادر بنفسه وكل ما عبد من دونه فهو ذليل مقهور وقيل معناه ليس له وليُّ من أهل الذل لأن الكافر والفاسق لا يكون ولياً لله.
{ وكبره تكبيراً } أي عظّمه تعظيماً لا يساويه تعظيماً ولا يقاربه وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أهله هذه الآية وما قبلها عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير, وقيل إن في هذه الآية ردّاً على اليهود والنصارى حين قالوا: اتخذ الله الولد وعلى مشركي العرب حيث قالوا: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك, وعلى الصابئين والمجوس حين قالوا: لولا أولياء الله لذل الله عن محمد بن كعب القرظي.
(سؤال) قالوا كيف يحمد سبحانه أنه لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك والحمد إنما يستحق على فعل له صفة التفضيل (والجواب) أنه ليس له الحمد في الآية على أنه لم يفعل وإنما الحمد له سبحانه على أفعاله المحمودة وتوجه الحمد إلى من هذه صفته كما يقال أنا أشكر فلاناً الجميل ولا نشكره على جماله بل على أفعاله.