التفاسير

< >
عرض

وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً
١٦
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً
١٧
مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً
١٨
وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً
١٩
كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً
٢٠
ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً
٢١
لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً
٢٢
-الإسراء

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: القراءة العامة أمرنا بالتخفيف غير ممدود وقرأ يعقوب آمرنا بالمد وهو قراءة علي بن أبي طالب (ع) والحسن وأبي العالية وقتادة وجماعة, وقرأ أمَّرنا بالتشديد للميم ابن عباس وأبو عثمان النهدي وأبو جعفر محمد بن علي بخلاف, وقرأ أمرنا بكسر الميم بوزن عمرنا الحسن ويحيى بن يعمر.
الحجة: قال أبو عبيد أمِرنا أكثرنا من قولهم أمِر بنو فلان أي كثروا وأنشد للبيد:

إنْ يَغْبِطُوا يَهْبِطُوا وَإنْ أمِرُوا يِوْمــاً يَصِيــرُوا لِلْهُلِكِ وَالنَّفَدِ

قال أبو علي: لا يخلو قوله أمرنا مخففة الهمزة من أن يكون فعلنا من الأمر أو من أمر القوم وأمرتهم مثل شَتَرَتْ عينه وشترتها ورجع ورجعته وسار وسرته فمن لم ير أن يكون أمرنا من أمر القوم إذا كثروا كما حكى ذلك يونس عن أبي عمرو فإنه ينبغي أن يكون من الأمر الذي هو خلاف النهي ويكون المعنى أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا, ومن قرأ آمرنا فإنه يكون أفعلنا من أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله وكذلك إن ضاعف العين فقال أمرنا ويقوي حمل أمرنا على النقل من أمر وأن لا يجعل من الأمر الذي هو خلاف النهي أن الأمر بالطاعة على هذا يكون مقصوراً على المترفين فقد أمر الله بطاعته جميع خلقه من مترف وغيره ويحمل أمَّرنا على أنه مثل أمرنا ونظير هذا كثر وأكثره الله وكثَّره ولا يحمل أمَّرنا على أن المعنى جعلناهم أمراء لأنه لا يكاد يكون في قرية واحدة جماعة أمراء فإن قلت يكون منهم الواحد بعد الواحد فإنهم إذا كانوا كذلك لا يكثرون في حال وإنما يهلك بكثرة المعاصي في الأرض وعلى هذا جاء الأمر في التنزيل { { يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون } [العنكبوت: 56] فأمرنا بالخروج من الأرض التي تكثر فيها المعاصي إلى ما كان بخلاف هذه الصفة ومما جاء فيه أمر بمعنى الكثرة قول زهير:

وَالإثْمُ مِنْ شَرِّ ما يُصالُ بِهِ وَالْبِـرُّ كَالْغَيـْـثِ نَبْتـُــهُ أمْرُ

وأما أمِرْنا فقد روى ابن جني بإسناده عن أبي حاتم قال: قال أبو زيد: يقال أمر الله ماله وآمره ومن قال إن أمرنا لا يكون بمعنى أكثرنا قال في قولـه "خَيْر المال سِكَّةٌ مَأْبُورة ومُهْرَةٌ مأمورة" إن معنى مأمورة مؤمّرة فإنما قال هذه لمكان الازدواج كما قالوا الغدايا والعشايا والغداة لا تجمع على الغدايا لكن قيل ذلك ليزدوج الكلام.
اللغة: الترفه النعمة قال ابن عرفة المترف المتروك يصنع ما يشاء ولا يمنع منه والتدمير والإهلاك والدمار الهلاك ويقال ذممته وذاميته فهو مذموم ومذؤوم ومذيم بمعنى ويكون ذامته بمعنى طردته ويقال اصنع ذاك وخلاك ذم أي ولا ذم عليك والدحر الإبعاد والمدحور المبعد والمطرود يقال اللهم ادحر عنا الشيطان أي ابعده.
الإعراب: كم أهلكنا موضع كم نصب بأهلكنا ودخلت الباء في قولك بربك للمدح كما يقول ناهيك به رجلاً وجاد بثوبك ثوباً وطاب بطعامك طعاماً وأكرم به رجلاً ويكون في كل ذلك في موضع رفع كما قال الشاعر:

وَيُخْبِرُنِـي عَــنْ غائِــبِ الْمَرْءِ هَدْيُهُ كَفَــى الهَدْيُ عَمَّا غيَّبَ الْمَرْءُ مُخْبِرا

فرفع لما أسقط الباء ويصليها في موضع نصب على الحال لمن نريد بدل من قوله: { عجلنا له فيها ما نشاء } وأعاد اللام لما كان البدل في تقدير جملة أخرى كقوله: { لمن آمن منهم } ومذموماً حال من الضمير المستكن في يصليها كلاً نمد كلاً بنمد وهؤلاء بدل من قوله: { كلاً } أي نمد كل واحد من هؤلاء وهؤلاء.
المعنى: { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها } لما لم يجز في العقول تقديم إرادة العذاب على المعصية لأنه عقوبة عليها ويستحقه لأجلها فمتى لم توجد المعصية لم يحسن فعل العقاب وإذا لم يحسن فعله لم تحسن إرادته اختلفوا في تأويل الآية وتقديرها على وجوه أحدها: إن معناه وإذا أردنا أن نهلك أهل قرية بعد قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل إليهم أمرنا مترفيها أي رؤساءها وساداتها بالطاعة واتباع الرسل أمراً بعد أمر نكّرره عليهم وبينة بعد بينة نأتيهم بها إعذاراً للعصاة وإنذاراً لهم وتوكيداً للحجة ففسقوا فيها بالمعاصي وأبوا إلا تمادياً في العصيان والكفران.
{ فحق عليها القول } أَي فوجب حينئذ عليها الوعيد: { فدمرناها تدميراً } أي أهلكناها إهلاكاً وإنما خصَّ المترفين وهم المنعمون والرؤساء بالذكر لأن غيرهم تبع لهم فيكون الأمر لهم أمراً لاتباعهم وعلى هذا فيكون قوله: { أمرنا مترفيها } جواباً لإذا وإليه يؤول ما روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن معناه أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا, ومثله أمرتك فعصيتني ويشهد بصحة هذا التأويل الآية المتقدمة وهي قوله: { من اهتدى } فإنما يهتدي لنفسه إلى قولـه: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } ثانيها: أن قوله: { أمرنا مترفيها } من صفة القرية وتقديره وإذا أردنا أن نهلك قرية صفتها أنا كنا قد أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فلا يكون لإذا جواب ظاهر في اللفظ للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه ونظيره قوله سبحانه:
{ { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } [الزمر: 71] إلى قوله: { { ونعم أجر العاملين } [الزمر: 74] فلم يأت لإذا جواب في طول الكلام للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة ومما يشهد بصحة ذلك قول الهذلي:

حَتـَّــى إذا سَلَكـُـوهُـمْ فِي قُتائِدَةٍ شَلاًّ كَما تُطْرُدُ الْجَمَّالَةُ الشُّرُدا

فحذف جواب إذا لأن هذا البيت آخر القصيدة وثالثها: أن الآية محمولة على التقديم والتأخير وتقديرها إذا أمرنا مترفي قرية بالطاعة فعصوا أردنا إهلاكهم ومما يمكن أن يكون شاهداً لهذا الوجه قوله: { { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك } [النساء: 102] وقيام الطائفة معه يكون قبل إقامة الصلاة لأن إقامتها هي الإتيان بجميعها على الكمال وكذلك قوله: { { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [المائدة: 6] والطهارة إنما تجب قبل القيام إلى الصلاة.
ورابعها: أنه سبحانه ذكر الإرادة على وجه المجاز والاتساع وإنما عنى بها قرب الهلاك والعلم بكونه لا محالة كما يقال إذا أراد العليل أنْ يموت خلط في مأكله ويسرع إلى ما تتوق نفسه إليه وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كل وجه, ومعلوم أن العليل والتاجر لم يريدا في الحقيقة شيئاً لكن لما كان من المعلوم من حال هذا الهلاك ومن حال ذلك الخسران حسن هذا الكلام واستعمل ذكر الإرادة لهذا الوجه. ولكلام العرب إشارات واستعارات ومجازات لأجلها كان كلامهم في الغاية القصوى من الفصاحة. والوجه الأول عندي أصح الوجوه وأقربها إلى الصواب إذا تأولت الآية على الأمر الذي هو ضد النهي إذا تأولت الآية على معنى القراءتين الأخيرتين من آمرنا بالمد وأمّرنا بالتشديد فلن يخرج على هذا الوجه وتكون محمولة على أحد الأوجه الثلاثة الأخر.
ثم بيَّن سبحانه ما فعله من ذلك بالقرون الخالية فقال { وكم أهلكنا من القرون } أي من الأمم الكثيرة المكذبة { من بعد نوح } أي من بعد زمان نوح إلى زمانك هذا لأن كم تفيد التكثير كما أن رب تفيد التقليل والقرن مائة وعشرون سنة عن عبد الله بن أبي أوفى وقيل مائة سنة عن محمد بن القاسم المازني وروي ذلك مرفوعاً وقيل ثمانون سنة عن الكلبي وقيل أربعون سنة ورواه ابن سيرين مرفوعاً { وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً } أي كفى ربك عالماً بذنوب خلقه { بصيراً } بها يجازيهم عليها ولا يفوته شيء منها.
ثم بيَّن سبحانه أنه يدبّر عباده بحسب ما يراه من المصلحة فقال { من كان يريد العاجلة } أي النعم العاجلة وهي الدنيا فعبَّر عنها بصفتها { عجلنا له فيها ما نشاء } من البسط والتقتير وعلَّق ذلك بمشيئته لا بمشيئة العبد فقد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله فلا يعطيه لكونه مفسدة { لمن نريد } أي لمن نريد إعطاءه بيَّن بذلك أنه ربما يكون حريصاً يريد الدنيا فلا يعطى وإن أعطي أعطي قليلاً { ثم جعلنا له جهنم يصلاها } أي يصير بصلاها ويحترق بنارها { مذموماً } ملوماً { مدحوراً } مبعداً من رحمة الله وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
"معنى الآية من كان يريد ثواب الدنيا بعمله الذي افترضه الله عليه لا يريد به وجه الله والدار الآخرة عجَّل له فيها ما يشاء الله من عرض الدنيا وليس له ثواب في الآخرة وذلك أن الله سبحانه وتعالى يؤتيه ذلك ليستعين به على الطاعة فيستعمله في معصية الله فيعاقبه الله عليه" .
{ ومن أراد الآخرة } أي ومن أراد خير الآخرة ونعيم الجنة { وسعى لها سعيها وهو مؤمن } أي فعل الطاعات وتجنب المعاصي وهو مع ذلك مصدّق بتوحيد الله مقرٌّ بأنبيائه { فأُولئك كان سعيهم مشكوراً } أي تكون طاعتهم مقبولة وقيل شكره أنه سبحانه يضاعف حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم عن قتادة والمعنى أنا أحللنا سعيهم محل ما يشكر عليه في حسن الجزاء وروي عن الحسن أنه قال: اطلبوا الآخرة فما رأيت طالباً لها إلا نالها وربما نال الدنيا وما رأيت طالب دنيا نال الآخرة وربما لا ينال الدنيا أيضاً.
{ كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء } أي كل واحد من هذين الفريقين ممن يريد الدنيا وممن يريد الآخرة نمدهم أي نزيدهم وقيل كلاً نعطي من الدنيا البر والفاجر عن الحسن والمعنى أنا نعطي المؤمن والكافر فالدنيا وأما الآخرة فللمتقين خاصة { من عطاء ربك } أي نعمة ربك ورزقه { وما كان عطاء ربك محظوراً } معناه وما كان رزق ربك محبوساً عن الكافر لكفره ولا عن الفاسق لفسقه.
"سؤال" فإن قيل هل يجوز أن يريد المكلف بعمله العاجل والآجل؟ والجواب نعم إذا جعل العاجل تبعاً للآجل كالمجاهد في سبيل الله يقاتل لإعزاز الدين ويجعل الغنيمة تبعاً.
{ انظر } يا محمد { كيف فضلنا بعضهم على بعض } بأن جعلنا بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء وبعضهم موالي وبعضهم عبيداً وبعضهم أصحّاء وبعضهم مرضى على حسب ما علمناه من المصالح { وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً } أي درجاتها ومراتبها أعلى وأفضل وهي مستحقة على قدر الأعمال فينبغي أن تكون رغبتهم في الآخرة وسعيهم لها أكثر قد روي أن ما بين أعلى درجات الجنة وأسفلها ما بين السماء والأرض وفي الآية دلالة على أن الطاعة لا تزيد في رزق الدنيا وإنما تزيد في درجات الآخرة { لا تجعل مع الله إلهاً آخر } قيل إن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أُمته وقيل معناه لا تجعل أيها السامع أو أيها الإنسان مع الله إلهاً آخر من اعتقادك وإقرارك ولا في عبادتك ولا في رغبتك ورهبتك { فتقعد مذموماً مخذولاً } معناه فإنك إن فعلت ذلك قعدت وبقيت ما عشت مذموماً على لسان العقلاء مخذولاً ولا ناصر لك يمنع الله نصرته عنك ويكلك إلى ما أشركت به وقيل معنى القعود الذل والخزي والخسران والعجز لا الجلوس كما يقال قعد به الضعف عن القتال أي عجز عنه.
النظم: وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها أنها اتصلت بقوله: { حتى يبعث رسولاً } والمعنى أنه لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل وتقديم الأمر والنهي واتمام النعمة في الإنذار والإعذار وظهور العصيان من الكفار والفجار وقيل إنها تتصل بما تقدم من قصة بني إسرائيل وما فعل بهم في الكرة الأولى والثانية فبيَّن سبحانه أن ما فعله موافق لعادته فيمن يريد إهلاكه فإنما يهلك القرى إذا أمر مترفيها بالطاعة ففسقوا فيكون إهلاكهم بالاستحقاق لا على الابتداء.