التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً
٩٠
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً
٩١
أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً
٩٢
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً
٩٣
وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً
٩٤
قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً
٩٥
-الإسراء

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة ويعقوب حتى تفجر لنا بفتح التاء وضم الجيم والباقون تُفجّر بضم التاء وتشديد الجيم وقرأ أبو جعفر وابن عامر كِسَفا بفتح السين, ها هنا وفي القرآن كِسْفا ساكنة السين وقرأ حفص بالفتح في جميع القرآن إلا في الطور, وقرأ أهل العراق وابن كثير بالسكون في جميع القرآن إلا في الروم يقرأ في الروم بسكون السين إلا أبو جعفر وابن عامر وابن كثير وابن عامر قال سبحانه ربي والباقون قل على الأمر.
الحجة: من قرأ تُفجِّر بالتشديد فلأنهم أرادوا كثرة الانفجار من الينبوع وهو وإن كان واحداً فلتكثير الانفجار منه حسن أن يقال بتكرير العين كما يقال ضرّب زيد إذا كثر منه فعل الضرب ومن قرأ تَفْجُر فلأن الينبوع واحد فلا يكون كقوله فتُفجِّر الأنهار خلالها تفجيراً لأن فجرت الأنهار مثل غلقت الأبواب فلذلك اتفق الجميع على التثقيل فيه, والكِسَف القِطَع واحدتها كِسْفة ومن سكنه جاز أن يريد الجمع مثل سِدْرَة وسِدْر. قال أبو زيد: كسفت الثوب أكسِفه كَسْفاً إذا قطعته, قال أبو علي: إذا كان المصدر الكَسْف فالكِسَفْ الشيء المقطوع كالطَحْن والطِحَن والسَقْي والسِقي ونحو ذلك فجاز أن يكون قوله أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً بمعنى ذات كسف وذلك إن أسقط لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد فوجب أن ينتصب كسفاً على الحال والحال ذو الحال في المعنى وإذا كان كذلك وجب أن يكون الكسف هو السماء فيصير المعنى أو تسقط السماء علينا مقطعة أو قطعاً, ومن قرأ قال سبحان ربي فالوجه فيه أن الرسول قال عند اقتراحهم هذه الأشياء
"سبحان ربي" ومن قرأ قل فهو على الأمر له بأن يقول ذلك.
اللغة: التفجير التشقيق عما يجري من ماء أو ضياء ومنه سمي الفجر لأنه ينشق عن عمود ومنه الفجور لأنه خروج إلى الفساد يشقق به عمود الحق والينبوع يفعول من نبع الماء ينبع فهو نابع إذا فار والقبيل الكفيل من قبلت به أقبل قبالة أي كفلت وتقبل فلان بالشيء إذا تكفل به قال الزجاج وجائز أن يكون المعنى تأتي بهم حتى نراهم مقابلة أي معاينة وأنشد غيره:

نُصــالِحُكُمْ حَتَّى تَبُوؤُا بِمِثْلِها كَصَرْخَةِ حُبْلى أَسْلَمَتْها قَبيِلُها

أي قابلتها التي هي مقابلتها والعرب تجريه في هذا المعنى مجرى المصدر فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث وأصل الزخرف من الزخرفة وهي الزينة وزخرفت الشيء إذا أكملت زينته ولا شيء في تحسين بيت وتزيينه وزخرفته كالذهب ويقال في الصعود رقيت أرقى رُقِياً وفيما تداويه بالرقية رقيت أرقى رَقية ورقياً.
النزول: قال ابن عباس إن جماعة من قريش وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيه ومنبه ابنا الحجاج والنضر بن الحارث وأبو البختري بن هشام اجتمعوا عند الكعبة وقال بعضهم ابعثوا إلى محمد فكلِّموه وخاصموه فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك فبادر صلى الله عليه وسلم إليهم ظناً منه أنهم بدا لهم في أمره وكان حريصاً على رشدهم فجلس إليهم فقالوا يا محمد إنا دعوناك لنعذر إليك فلا نعلم أحداً أدخل على قومه ما أدخلت على قومك شتمت الآلهة وعبت الدين وسفهت الأحلام وفرَّقت الجماعة فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالاً أعطيناك وإن كنت تطلب الشرف سوَّدناك علينا وإن كانت علة غلبت عليك طلبنا لك الأطباء فقال صلى الله عليه وسلم:
"ليس شيء من ذلك بل بعثني الله إليكم رسولاً وأنزل كتاباً فإن قبلتم ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردّوه أصبر حتى يحكم الله بيننا قالوا: فإذن ليس أحد أضيق بلداً منا فاسأل ربك أن يسير هذه الجبال ويجري لنا أنهاراً كأنهار الشام والعراق وأن يبعث لنا من مضى وليكن فيهم قصي فإنه شيخ صدوق لنسألهم عما تقول أحق أم باطل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بهذا بعثت قالوا فإن لم تفعل ذلك فاسأل ربك أن يبعث ملكاً يصدّقك ويجعل لنا جنات وكنوزاً وقصوراً من ذهب فقال صلى الله عليه وسلم: ما بهذا بعثت وقد جئتكم بما بعثني الله به فإن قبلتم وإلا فهو يحكم بيني وبينكم قالوا فأسقط علينا السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك قال ذاك إلى الله إن شاء فعل وقال قائل منهم: لا نؤمن حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أبي أمية المخزومي ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ثم سألوك لأنفسهم أموراً فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به فلم تفعل فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ سلَّماً إلى السماء ثم ترقى فيه وأنا أنظر ويأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك وكتاب يشهد لك وقال أبو جهل إنه أبى إلا سبُّ الآلهة وشتم الآباء وأنا أعاهد الله لأحملن حجراً فإذا سجد ضربت به رأسه فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً لما رأى من قومه فأنزل الله سبحانه الآيات" .
المعنى: لمّا بيَّن سبحانه فيما تقدّم إعجاز القرآن عقَّب ذلك البيان بأنهم أبوا الكفر والطغيان واقترحوا من الآيات ما ليس لهم ذلك فقال { وقالوا لن نؤمن لك } أي لن نصدّقك فيما تدعي من النبوة { حتى تفجر لنا من الأرض } أي تشقّق لنا من أرض مكة فإنها قليلة الماء { ينبوعاً } أي عيناً ينبع منه الماء في وسط مكة { أو تكون لك جنة } وهي ما تجنّه الأشجار أي تستره { من نخيل وعنب فتفجر الأنهار } من الماء { خلالها } أي وسطها { تفجيراً } أي تشقيقاً حتى يجري الماء تحت الأشجار.
{ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } أي قطعاً قد تركب بعضها على بعض عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وقولـه كما زعمت معناه كما خوَّفتنا به من انشقاق السماء وانفطارها وقيل معناه كما زعمت أنك نبي تأتي بالمعجزات { أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً } أي كفيلاً ومعناه تأتي بكل واحدة حتى يكون كفيلاً ضامناً لنا بما تقول عن ابن عباس والضحاك وقيل هو جمع القبيلة أي تأتي بأَصناف الملائكة قبيلة قبيلة عن مجاهد وقيل معناه مقابلين لنا كالشيء يقابل الشيء حتى نشاهدهم قبيلاً أي مقابلة نعاينهم ويشهدون بأنك حق ودعوتك صدق عن الجبائي وقتادة وهذا يدل على أن القوم كانوا مشبهة مع شركهم.
{ أو يكون لك بيت من زخرف } أي من ذهب عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وقيل الزخرف النقوش عن الحسن { أو ترقى في السماء } أي تصعد { ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } أي ولو فعلت ذلك لم نصدقك حتى تنزل على كل واحد منا كتاباً من الله شاهداً بصحة نبوتك نقرؤه وهو مثل قوله
{ { بل يريد كل امرء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة } [المدثر: 52].
{ قل سبحان ربي } أي تنزيهاً له من كل قبيح وبراءة له من كل سوء وفي ذلك من الجواب أنكم تتخيرون الآيات وهي إلى الله سبحانه فهو العالم بالتدبير الفاعل لما توجبه المصلحة فلا وجه لطلبكم إياها مني وقيل معناه تعظيماً له عن أن يحكم عليه عبيده لأن له الطاعة عليهم, وقيل إنهم لما قالوا تأتي بالله وترقى في السماء إلى الله لاعتقادهم أن الله تعالى جسم قال قل سبحان ربي عن كونه بصفة الأجسام حتى تجوز عليه المقابلة والنزول وقيل معناه تنزيهاً له عن أن يفعل المعجزات تابعاً للاقتراحات.
{ هل كنت إلا بشراً رسولاً } معناه أن هذه الأشياء ليس في طاقة البشر أن يأتي بها وأن يفعلها فلا أقدر بنفسي أن آتي بها كما لم يقدر من كان قبلي من الرسل والله تعالى إنما يظهر الآيات المعجزة على حسب المصلحة وقد فعل فلا تطالبوني بما لا يطالب به البشر.
{ وما منع الناس أن يؤمنوا } أي وما صرف المشركين عن الإِيمان أي التصديق بالله وبرسوله { إذا جاءهم الهدى } أي حين أتاهم الحجج والبينات { إلا أن قالوا } أي إلا قولهم { أبعث الله بشراً رسولاً } دخلت عليهم الشبهة في أنه لا يجوز أن يبعث الله رسولاً إلا من الملائكة كما دخلت عليهم الشبهة في أن عبادتهم لا تصلح لله فوجهوها إلى الأصنام فعظموا الله بجهلهم بما ليس فيه تعظيم وإنما ذكر سبحانه هنا لفظ المنع مبالغة في وصف الصرف وإلا فالمنع يستحيل معه الفعل فلا يجوز أن يكون مراداً هنا ولكن شبه الصرف بالمنع.
{ قل } يا محمد { لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين } أي ساكنين قاطنين { لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } منهم عن الحسن وقيل معناه مطمئنين إلى الدنيا ولذاتها غير خائفين ولا متعبدين بشرع لأن المطمئن من زال الخوف عنه عن الجبائي, وقيل معناه لو كان أهل الأرض ملائكة لبعثنا إليهم ملكاً ليكونوا إلى الفهم إليه أسرع عن أبي مسلم, وقيل إن العرب قالوا كنا ساكنين مطمئنين فجاء محمد فأزعجنا وشوَّش علينا أمرنا فبيَّن سبحانه أنهم لو كانوا ملائكة مطمئنين لأوجبت الحكمة إرسال الرسل إليهم فكذلك كون الناس مطمئنين لا يمنع من إرسال الرسول إليهم إذ هم أحوج إليه من الملائكة فكيف أنكروا إرسال الرسول إليهم مع كونهم مطمئنين.
(سؤال) قالوا إذا جاز أن يكون الرسول إلى النبي ملكاً ليس من جنسه فألا جأز أن يكون الرسول إلى الناس أيضاً ملكاً من جنسهم (وجوابه) أن صاحب المعجزة قد اختير للنبوة فصارت حاله مقاربة لحال الملك وليس كذلك غيره من الأمة لأنه يجوز أن يرى الملائكة كما يرى بعضهم بعضاً بخلاف الأمة وأيضاً فإن النبي يحتاج إلى معجزة تعرف بها رسالة نفسه كما احتاجت إليه الأمة فجعل الله المعجزة رؤيته الملك.