التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً
٥٠
مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً
٥١
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً
٥٢
-الكهف

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أبو جعفر ما أشهدناهم بالنون على التعظيم والباقون ما أشهدتهم بالتاء وقرأ حمزة ويوم نقول بالنون والباقون بالياء.
الحجة: من قرأ نقول بالنون حمله على ما تقدم في المعنى فكما أن كنت للمتكلم فكذلك نقول ومن قرأ بالياء فحجته أن الكلام قد انقضى فالمعنى ويوم يقول الله نادوا شركائي وهذا يقوي القراءة بالياء لأنه لو كانت بالنون لكان الأشبه أن يقول نادوا شركاءنا.
اللغة: الفسق الخروج إلى حال تضر يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها قال رؤبة:

يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْراً غائرا فَـواسِقاً عَنْ قَصْـدِها جَوائِرا

قال أبو عبيدة هذه التسمية لم نسمعها في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكلم بها العرب بعد نزول القرآن. وقال المبرد: الأمر على ما ذكره أبو عبيدة وهي كلمة فصيحة على ألسنة العرب وقال قطرب فسق عن أمر ربه أي عن رد أمر ربه كقولهم كسوته عن عرى وأطعمته عن جوع, والعضد ما بين المرفق إلى الكتف وفيه خمس لغات عضُد وعَضَد وعَضِد وعُضُد وعَضْد وعَضَدْتُ فلاناً أَعَنْتُه وفلان عضدي استعارة واعتضد به أي استعان. قال ثعلب كل شيء حال بين شيئين فهو موبق من وبق يبق وبوقاً إذا هلك وحكى الزجاج يوبق الرجل وبقاً.
الإعراب: بئس للظالمين بدلاً اسم بئس مضمر فُسِّر بقوله بدلاً وقوله للظالمين فصّل بين بئس وبين ما انتصب على التمييز والتقدير بئس البدل للظالمين ذرية إبليس فذرية إبليس هو المخصص بالذم عن أبي علي الفارسي.
المعنى: ثم أمر سبحانه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُذكّر هؤلاء المتكبرين عن مجالسة الفقراء قصة إبليس وما أورثه الكبر فقال: { وإذ قلنا } أي واذكر يا محمد إذ قلنا { للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس } قد مرَّ تفسيره فيما تقدَّم وإنما تقرر بهذا القول في القرآن لأجل ما بعده مما يحتاج اتصاله به فهو كالمعنى الذي يفيد أمراً في مواضع كثيرة للإخبار عنه بأخبار مختلفة وقوله: { كان من الجن } من قال إن إبليس لم يكن من الملائكة استدلَّ بهذا لأن الجن غير الملائكة كما أنهم غير الإنس ومن قال إنه كان من الملائكة قال إن المعنى كان من الذين يستترون عن الأبصار مأخوذ من الجن وهو الستر. وقيل: كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن كانوا خزان الجنان فأضيفوا إليها كقولك كوفي بصري, وضعف الأولون هذين الوجهين لأن لفظ الجن إذا أطلق فالمفهوم منه هذا الجنس المعروف لا الملائكة.
{ ففسق عن أمر ربه } أي خرج عن طاعة ربه ثم خاطب الله سبحانه المشركين فقال: { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو } معناه أفتتبعون أمر إبليس وأمر ذريته وتتخذونهم أولياء تتولونهم بالطاعة من دوني وهم جميعا أعداءٌ لكم والعاقل حقيق بأن يتَّهم عدوَّه على نفسه وهذا استفهام بمعنى الإنكار والتوبيخ. قال مجاهد: ذريته الشياطين, وقال الحسن: الجن من ذريته { بئس للظالمين بدلاً } تقديره بئس البدل للظالمين بدلاً ومعناه بئس ما استبدلوا بعبادة ربهم إذا أطاعوا إبليس عن الحسن. وقيل: بئس البدل طاعة الشيطان عن طاعة الرحمن عن قتادة { ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم } أي ما أحضرت إبليس وذريته خلق السموات والأرض ولاخلق أنفسهم مستعيناً بهم على ذلك ولا استعنت ببعضهم على خلق بعض وهذا إخبار عن كمال قدرته واستغنائه عن الأنصار والأعوان ويدل عليه قوله: { وما كنت متخذ المضلين عضداً } أي الشياطين الذين يضلون الناس أعواناً يعضدونني عليه وكثيراً ما يستعمل العضد بمعنى العون وإنما وحده هنا لوفاق الفواصل. وقيل: أن معنى الآية أنكم اتبعتم الشيطان كما يتبع من يكون عنده عليم لا ينال إلا من جهته وأنا ما أطلعتهم على خلق السموات والأرض ولا على خلق أنفسهم ولم أعطهم العلم بأنه كيف تخلق الأشياء فمن أين تتبعونهم. وقيل: معناه ما أحضرت مشركي العرب وهؤلاء الكفار خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم أي وما أحضرت بعضهم خلق بعض بل لم يكونوا موجودين فخلقتهم فمن أين قالوا إن الملائكة بنات الله ومن أين أدَّعوا ذلك.
{ ويوم يقول } يريد يوم القيامة يقول الله للمشركين وعبدة الأصنام { نادوا شركائي الذين زعمتم } في الدنيا أنهم شركائي ليدفعوا عنكم العذاب { فدعوهم } يعني المشركين يدعون أولئك الشركاء الذين عبدوهم مع الله { فلم يستجيبوا لهم } أي فلا يستجيبون لهم ولا ينفعونهم شيئاً { وجعلنا بينهم } أي بين المؤمنين والكافرين { موبقاً } وهو اسم وادٍ عميق فرَّق الله به سبحانه بين أهل الهدى وأهل الضلالة عن مجاهد وقتادة. وقيل: بين المعبودين وعبدتهم موبقاً أي حاجزاً عن ابن الأعرابي أي فأدخلنا من كانوا يزعمون أنهم معبودهم مثل الملائكة والمسيح والجنة وأدخلنا الكفار النار. وقيل: معناه جعلنا تواصلهم في الدنيا موبقاً أي مهلكاً لهم في الآخرة عن الفراء, وروي ذلك عن قتادة وابن عباس فالبين على هذا القول معناه التواصل والمعنى أن تواصلهم وتوادهم في الكفر سبب هلاكهم في الآخرة. وقيل: موبقاً عداوة عن الحسن فكأنه قال عداوة مهلكة, وروي عن أنس بن مالك أنه قال: الموبق وادٍ في جهنم من قيح ودم.
النظم: وجه اتصال قوله ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض بما قبله أنه يتصل اتصال الحجة التي تكشف حيرة الشبهة لأنه بمنزلة أن يقال إنكم قد أقبلتم على اتباع إبليس وذريته وتركتم أمر الله تعالى مع كثرة الحجج ولو أشهدتهم خلق السماوات والأرض لم يزيدوا على ما فعلتم من اتباعهم, وقيل: إنه سبحانه بيَّن بذلك أنه المتفرد بالخلق والاختراع لا شريك له فيه فلا ينبغي أن تشركوا معه في العبادة غيره أو تدعوا غيره إلهاً.