التفاسير

< >
عرض

وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٠٩
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الحسد إرادة زوال نعمة المحسود إليه أو كراهة النعمة التي هو فيها وإرادة أن تصير تلك النعمة بعينها له, وقد يكون تمني زوال نعمة الغير حسداً وإن لم يطمع الحاسد في تحول تلك النعمة إليه, وأشد الحسد التعرض للاغتمام بكون الخير لأحد وأما الغبطة فهي أن يراد مثل النعمة التي فيها الغير وإن لم يرد زوالها عنه ولا يكره كونها له فهذا غير مذموم والحسد مذموم ويقال حَسَدته على الشيء أحسُده حَسَداً وحسدته الشيء بمعنى واحد ومنه قول الشاعر:

يحسد الناس الطعاما

والصفح والعفو والتجاوز عن الذنب بمعنى ويقال لظاهر جلدة الإنسان صَفْحتُه وكذا هو من كل شيء ومنه صافحته أي لَقَتْ صفحة كفه صفحة كفي وقولـهم صفحت عنه فيه قولان أحدهما: أن معناه أني لم آخذه بذنبه وأبديتُ له مني صفحة جميلة. والآخر: أنه لم يرَ مني ما يقبض صفحته ويقال صفحتُ الورقة أي تجاوزتها إلى غيرها ومنه تصفحت الكتاب وقد يتصفح الكتاب من لا يُحسِن أن يقرأه.
الإعراب: مِن في قولـه: { من أهل الكتاب } يتعلق بمحذوف تقديره فريق كائنون من أهل الكتاب فيكون صفة لكثير مِن بعد في محل النصب على الظرف والعامل فيه يردّ وكفاراً مفعول ثان ليردّ ومفعوله الأول كُم مِن يردّونكم وفي انتصاب قولـه حسداً وجهان أحدهما: أن الجملة التي قبله تدل على الفعل الذي هو مصدره وتقديره حسدوكم حسداً كما يقال فلان يتمنى لك الشر حسداً فكأنه قال يحسد حسداً. والآخر: أن يكون مفعولاً له فكأنه قال يردونكم كفاراً لأجل الحسد كما تقول جئته خوفاً منه وقولـه من عند أنفسهم يتعلق بقولـه ودّ كثير لا بقولـه حسداً لأن حسد الإنسان لا يكون من غير نفسه قال الزجاج وَقال غيره يجوز أن يتعلق بقولـه حسداً على التوكيد كقولـه عز وجل
{ { ولا طائر يطير بجناحيه } [الأنعام: 38] ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون اليهود قد أضافوا الكفر والمعاصي إلى الله تعالى فقال سبحانه تكذيباً لهم:إن ذلك { من عند أنفسهم } وقولـه: { ما تبين } ما حرف موصول وتبين لهم الحق صلته والموصول والصلة في محل الجر بإضافة بعد إليه حتى يأتي الله يأتي منصوب بإضمار أن وهما في محل الجر بحتى والجار والمجرور مفعول فاعفوا واصفحوا.
النزول: نزلت الآية في حيي بن أخطب وأخيه أبي ياسر بن أخطب وقد دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فلما خرجا قيل لحيي أهُو نَبيّ قال هو هو, فقيل فما له عندك قال العداوة إلى الموت وهو الذي نقض العهد وأثار الحرب يوم الأحزاب عن ابن عباس وقيل نزلت في كعب بن الأشرف عن الزهري وقيل في جماعة اليهود عن الحسن.
المعنى: ثم أخبر الله سبحانه عن سرائر اليهود فقال { ودّ } أي تمنى { كثير من أهل الكتاب } كحيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وأمثالهما { لو يردونكم } يا معشر المؤمنين أي يرجعونكم { من بعد إيمانكم كفاراً حسداً } منهم لكم بما أعدّ الله لكم من الثواب والخير وإنما قال كثير من أهل الكتاب لأنه إنما آمن منهم القليل كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وقيل إنما حسد اليهود المسلمين على وضع النبوة فيهم وذهابها عنهم وزوال الرياسة إليهم وقولـه: { من عند أنفسهم } قد بَيّنا ما فيه في الإعراب وقولـه: { من بعد ما تَبَيّنَ لهم الحق } أي بعد ما تبين لهم أن محمداً رسول الله والإسلام دين الله عن ابن عباس وقتادة والسدي.
وقولـه: { فاعفوا واصفحوا } أي تجاوزوا عنهم وقيل أرسلوهم فإنهم لا يفوتون الله ولا يعجزونه وإنما أمرهم بالعفو والصفح وإن كانوا مضطهدين مقهورين من حيث إن كثيراً من المسلمين كانوا عزيزين في عشائرهم وأقوامهم يقدرون على الانتقام من الكفار فأمرهم الله بالعفو وإن كانوا قادرين على الانتصاف { حتى يأتي الله بأمره } أي بأمره لكم بعقابهم أو يعاقبهم هو على ذلك ثم أتاهم بأمره فقال: { قاتلوا الذين لا يؤمنون } عن أبي علي وقيل بأمره أي بآية القتل والسبي لبني قريظة والجلاء لبني النضير عن ابن عباس وقيل بأمره بالقتال عن قتادة فإنه قال هذه الآية منسوخة بقولـه:
{ { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } [التوبة: 29] وبه قال الربيع والسدي وقيل نسخت بقولـه: { { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [التوبة: 5] وروي عن الباقر (ع) أنه قال لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال ولا أذن له فيه حتى نزل جبرائيل عليه السلام بهذه الآية { { أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } [الحج: 39] وقلّده سيفاً وقولـه: { إن الله على كل شيء قدير } فيه ثلاثة أقوال. أحدها: أنه قدير على عقابهم إذ هو على كل شيء قدير عن أبي علي وثانيها: أنه قدير على أن يدعو إلى دينه بما أحب مما هو الأليق بالحكمة فيأمر بالصفح تارة وبالعقاب أخرى على حسب المصلحة عن الزجاج وثالثها: أنه لمَا أمر بالإمهال والتأخير في قولـه: { فاعفوا واصفحوا } قال إن الله قادر على عقوبتهم بأن يأمركم بقتالهم ويعاقبهم في الآخرة بنفسه.