التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٢٦
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن عامر فأمتِعهُ بسكون الميم خفيفة من أمتعت والباقون بالتشديد وفتح الميم من مَتّعت, وروي في الشواذ عن ابن عباس فأُمْتِعْه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار على الدعاء من إبراهيم عليه السلام وعن ابن محيصن ثم أطّره بإِدغام الضاد في الطاء.
الحجة: قال أبو علي التشديد في أمتعه أولى لأن التنزيل عليه قال سبحانه
{ يُمتّعكم متاعاً حسناً } [هود: 3] { وكمن مَتَّعناه متاع الحياة الدنيا } [القصص: 61] ووجه قراءة ابن عامر أنّ أَمتع لغة قال الراعي:

خَلِيلَينِ مِنْ شَعْبَينِ شَتَّى تَجَاوَرَا قَدِيْماً وَكَانَا بِالتَّفَرُّقِ أَمْتَعَا

قال أبو زيد أمتعا أراد تمتعا فأما قراءة ابن عباس فأَمْتِعه فيحتمل أمرين من ابن جني أحدهما: أن يكون الضمير في قال لإبراهيم أي قال إبراهيم أيضاً ومن كفر فأَمْتِعة يا رب وحسن إعادة قال لطول الكلام ولأنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين والآخر أن يكون الضمير في قال لله تعالى أي فأَمْتِعه يا خالق أو يا إله يخاطب بذلك نفسه عز وجل فجرى ذلك على ما تعتاده العرب من أمر الإنسان لنفسه كقول الأعشى:

ودِّعْ هُرَيْرَة إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أيُّهَا الرَّجُلُ

اللغة: البلد والمصر والمدينة نظائر وأصله من قولـهم بلد للأَثر في الجلد وغيره وجمعه أبلاد ومن ذلك سميت البلاد لأنها مواضع مواطن الناس وتأثيرهم ومن ذلك قولـهم لكِرْكِرة البعير بلدة لأنه إذا برك تأثرت والاضطرار هو الفعل في الغير على وجه لا يمكنه الانفكاك منه إذا كان من جنس مقدوره ولهذا لا يقال فلان مضطر إلى لونه وإن كان لا يمكنه دفعه عن نفسه لما لم يكن اللون من جنس مقدوره ويقال هو مضطره إلى حركة الفالج وحركة العروق لما كانت الحركة من جنس مقدوره والمصير الحال التي يؤدي إليها أول لها وصار وحال وآل نظائر وصير كل أمر مصيره وصير الباب شقه وفي الحديث: " من نظر في صير باب فقد دمر" " وصيور الأمر آخره.
الإعراب: قولـه { من آمن } محله نصب لأنه بدل من أهله وهو بدل البعض من الكل كما تقول أخذت المال ثلثه وجعلت متاعك بعضه على بعض وقولـه { ومن كفر } ويجوز أن يكون موصولاً وصلة في موضع الرفع على الابتداء ويجوز أن يكون من أسماء الشرط في موضع رفع بالابتداء وكفر شرطه و { فأمتعه } الفاء وما بعده جزاء ومعنى حرف الشرط الذي تضمنه { مَن } مع الشرط والجزاء في موضع خبر المبتدأ وعلى القول الأول فالفاء وما بعده خبر المبتدأ { وبئس المصير } فعل وفاعل في موضع الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره وبئس المصير النار أو العذاب وانتصب قليلاً على أحد وجهين:
أحدهما: أن يكون صفة للمصدر نحو قولـه { متاعاً حسناً } قال سيبويه ترى الرجل يعالج شيئاً فيقول رويداً أي علاجاً رويداً وإنما وصفه بالقلة مع أن التمتيع يدل على التكثير من حيث كان إلى نفاد ونقص وتناهٍ كقولـه سبحانه
{ قل متاع الدنيا قليل } [النساء: 77].
والثاني: أن يكون وصفاً للزمان أي زماناً قليلاً ويدل عليه قولـه سبحانه:
{ عما قليل ليصبحن نادمين } [المؤمنون: 40] تقديره بعد زمان قليل كما يقال عَرق عن الحمى وأطعمه عن الجوع أي بعد الحمى وبعد الجوع.
المعنى: { و } اذكر { إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا } أي هذا البلد يعني مكة { بلداً آمنا } أي ذا أمن كما يقال بلد آهلٍ أي ذو أهل وقيل معناه يأمنون فيه كما يقال ليل نائم أي ينام فيه قال ابن عباس يريد حراماً محرماً لا يصاد طيره ولا يقطع شجره ولا يختلى خلاؤه وإلى هذا المعنى يؤول ما روي عن الصادق عليه السلام من قولـه: "من دخل الحرم مستجيراً به فهو آمن من سخط الله عز وجل ومن دخله من الوحش والطير كان آمناً من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة:
" إن الله تعالى حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحلّ لأحد قبلي ولا تحل لأحد من بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من النهار" " فهذا الخبر وأمثاله المشهورة في روايات أصحابنا تدلّ على أن الحرم كان آمناً قبل دعوة إبراهيم عليه السلام وإنما تأكدت حرمته بدعائه عليه السلام وقيل إنّما صار حرماً بدعائه (ع) وقبل ذلك كان كسائر البلاد واستدل عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن إبراهيم حرّم مكة وإني حرّمت المدينة " وقيل كانت مكة حراماً قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراماً بعد الدعوة فالأول بمنع الله إياها من الاصطلام والائتفاك كما لحق ذلك غيرها من البلاد وبما جعل ذلك في النفوس من تعظيمها والهيبة لها والثاني: بالأمر بتعظيمه على ألسنة الرسل فأجابه الله تعالى إلى ما سأل وإنما سأله أن يجعلها آمنة من الجدب والقحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع ولم يسأله أَمنها من الائتفاك والخسف الذي كان حاصلاً لها, وقيل إنه عليه السلام سأله الأمرين على أن يديمهما وإن كان أحدهما مستأنفاً والآخر قد كان قبل.
وقولـه: { وارزق أهله من الثمرات } أي أعط من أنواع الرزق والثمرات { من آمن منهم بالله واليوم الآخر } سأل لهم الثمرات ليجتمع لهم الأمن والخصب فيكونوا في رغد من العيش. وروي عن أبي جعفر عليه السلام أن المراد بذلك أن الثمرات تحمل إليهم من الآفاق, وروي عن الصادق عليه السلام قال: هي ثمرات القلوب أي حببهم إلى الناس ليثوبوا إليهم وإنما خصّ بذلك من آمن بالله لأن الله تعالى قد أعلمه أنه يكون في ذريته الظالمون في جواب مسألته إياه لذريته الإمامة بقولـه: { لا ينال عهدي الظالمين } فخصّ بالدعاء في الرزق المؤمنين تأدباً بأدب الله تعالى وقيل: إنه عليه السلام ظنّ أنه إذا دعا للكفار بالرزق أنهم يكثرون بمكة ويفسدون فربما يصدون الناس عن الحج فخص بالدعاء أهل الإيمان.
وقولـه { قال ومن كفر فأمتعه قليلاً } أي قال الله سبحانه قد استجبت دعوتك فيمن آمن منهم ومن كفر فأمتعه بالرزق الذي أرزقه إلى وقت مماته وقيل فأمتعه بالبقاء في الدنيا وقيل أمتعه بالأمن والرزق إلى خروج محمد صلى الله عليه وسلم فيقتله إن أقام على كفره أو يجليه عن مكة عن الحسن { ثم اضطره إلى عذاب النار } أي أدفعه إلى النار وأسوقه إليها في الآخرة { وبئس المصير } أي المرجع والمأوى والمال.