التفاسير

< >
عرض

فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٨٢
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة غير حفص ويعقوب موصّ بالتشديد وقرأ الباقون موص بالتخفيف.
الحجة: ذكرناها عند قولـه ووصى بها إبراهيم.
اللغة: الجنف الجور وهو الميل عن الحق وقال صاحب العين هو الميل في الكلام وفي الأمور كلها يقال جنف علينا فلان وأجنف في حكمه وهو مثل الحيف إلا أن الحيف في الحكم خاصة والجنف عام ورجل أجنف في أحد شقيه ميل على الآخر قال الشاعر في الجنف:

إنّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أرُومَةُ عَامِرٍ ضَيْمِي وَقَدْ جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُوْمُ

الإعراب: من في قولـه من موص يتعلق بمحذوف تقديره فمن خاف جنفاً كائناً من موص فموضع الجار والمجرور مع المحذوف نصب على الحال وذو الحال قولـه جنفاً وبين ظرف مكان لأصلح والضمير في بينهم عائد إلى معلوم بالدلالة عليه عند ذكر الموصي والإصلاح لأنه يدل على الموصي لهم ومن ينازعهم وأنشد الفراء في مثله:

أعْمَى إذَا مَا جَارَتِي خَرَجَتْ حَتَّى يُوَارِي جَارَتِي الخِدْرُ
وَيَصَمُّ عَمَّا كــــانَ بَينَهُمـَــــا سَمْعـَي وَما بِي غَيْرَهُ وَقْرُ

أراد بينها وبين زوجها وإنما ذكرها وحدها.
المعنى: لما تقدم الوعيد لِمن بدَّل الوصية بيَّن في هذه الآية أن ذلك يلزم مَن غيَّر حقاً بباطل فَأمّا من غير باطلاً بحق فهو محسن فقال: { فمن خاف } أي خشى وقيل علم لأن في الخوف طرفاً من العلم وذلك أن القائل إذا قال أخاف أن يقع أمر كذا فكأنه يقول أعلم وإنما يخاف لعلمه بوقوعه ومنه قولـه:
{ { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } [الأنعام: 51] وقولـه: { إلاّ أن يخافا ألاّ يقيما حدود الله } [البقرة: 229] { من موص جنفاً } أي ميلاً عن الحق فيما يوصي به فإن قيل كيف قال فمن خاف لما قد وقع والخوف إنما يكون لما لم يقع قيل إن فيه قولين أحدهما: أنه خاف أن يكون قد زلَّ في وصيته فالخوف يكون للمستقبل وهو من أن يظهر ما يدل على أنه قد زل لأنه من جهة غالب الظن والثاني: أنه لما اشتمل على الواقع وعلى ما لم يقع جاز فيه خاف فيأمره بما فيه الصلاح فيما لم يقع وما وقع ردّه إلى العدل بعد موته.
وقال الحسن: الجنف هو أن يوصي به في غير قرابة وإنما قال ذلك لأن عنده الوصية للقرابة واجبة, والأمر بخلافه وقيل المراد من خاف من موص في حال مرضه الذي يريد أن يوصي جنفاً وهو أن يعطي بعضاً ويضرّ ببعض فلا إثم عليه أن يشير عليه بالحق ويردّه إلى الصواب ويصلح بين الموصي والورثة والموصى له حتى يكون الكل راضين ولا يحصل جنف ولا إثم ويكون قولـه فأصلح بينهم أي فيما يخاف بينهم من حدوث الخلاف فيه فيما بعد ويكون قولـه فمن خاف على ظاهره ويكون الخوف مترقباً غير واقع وهذا قريب غير أن الأول عليه أكثر المفسرين وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام وقولـه: { أو إثماً } الإثم أن يكون الميل عن الحق على وجه العمد والجنف أن يكون على جهة الخطأ من حيث لا يدري أنه يجوز وهو معنى قول ابن عباس والحسن وروي ذلك عن أبي جعفر (ع).
{ فأصلح بينهم } أي بين الورثة والمختلفين في الوصية وهم الموصى لهم { فلا إثم عليه } لأنه متوسط مريد للإصلاح وإنما قال لا إثم عليه ولم يقل يستحق الأجر لأن المتوسط إنما يجري أمره في الغالب على أن ينقص صاحب الحق بعض حقه بسؤاله إياه فبَيّن سبحانه لنا أنه لا إثم عليه في ذلك إذا قصد الإصلاح وقيل إنه لما بين إثم المبدل وهذا أيضاً ضرب من التبديل بين مخالفته للأول بكونه غير مأثوم برده الوصية إلى العدل { فإن الله غفور رحيم } يعني إذا كان يغفر الذنوب ويرحم المذنب فأولى وأحرى أن يكون كذلك ولا ذنب وروي عن الصادق عليه السلام في قولـه جنفاً أو إثماً أنه بمعنى إذا اعتدى في الوصية وزاد على الثلث وروي ذلك عن ابن عباس وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال: "
"من حضره الموت فوضع وصيته على كتاب الله كان ذلك كفارة لما ضيع من زكاته في حياته" وبالله التوفيق.