التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
٢١٩
فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٢٠
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

آيتان في الكوفي وآية واحدة فيما عدّ الكوفي تتفكرون آية وتركها غيره.
القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم إثم كثير بالثاء والباقون بالباء وقرأ أبو عمرو وحده قل العفو بالرفع والباقون بالنصب.
الحجة: قال أبو علي حجة من قرأ بالباء أن يقول الباء أولى لأن الكبر مثل العظم ومقابلـه الصغر والكبير العظيم قال تعالى:
{ وكل صغير وكبير مستطر } [القمر: 53] وقد استعملوا في الذنب إذا كان موبقاً الكبيرة كقولـه: { كبائر ما تنهون عنه } [النساء: 31] و { كبائر الإثم } [الشورى: 37] فلذلك ينبغي أن يكون قولـه: { قل فيهما إثم كبير } بالباء لأن شرب الخمر والميسر من الكبيرة وقالوا في غير الموبق صغير وصغيرة ولم يقولوا قليل ومقابل الكثير القليل كما أن مقابل الكبير الصغير ويدل على ذلك أيضاً قولـه: { وإثمهما أكبر من نفعهما } واتفاقهم هنا على أكبر ورفضهم لأكثر ووجه قراءة من قرأ بالثاء أنه قد جاء فيهما إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة وفي الحديث: " لعن الرسول في الخمر عشرة مشتريها والمشتراة لـه وعاصرها والمعصورة لـه وساقيها والمستقي لـها وحاملـها والمحمولة إليه وآكل ثمنها" " فهذا يقوي قراءة من قرأ كثير وأما وجه قول من نصب العفو فهو أنّ قولـهم ماذا يستعمل على ضربين أحدهما: أن يكون ما مع ذا اسماً واحداً والآخر: أن يكون ذا بمعنى الذي فالأول قول العرب عما ذا تسئل أثبتوا الألف في ما لِما كان ما مع ذا بمنزلة اسم واحد فإن الحذف إنما يقع إذا كانت الألف آخراً ومن ذلك قول الشاعر:

يا خُزْرَ تَغْلِبَ ماذا بَالُ نِسْوَتِكُمْ لاَ يَسْتَفِقْنَ إلى الدَّيْرَيْنِ تَحْنَانَا

أي ما بال نسوتكم فإذا كان ما مع ذا بمنزلة اسم واحد كان قولـه ماذا ينفقون في موضع نصب بمنزلة ما ينفقون أي أيَّا ما ينفقون فجواب هذا العفو بالنصب وأما وجه قول من رفع فهو أن يجعل ماذا على الضرب الآخر فيكون تقديره ما الذي ينفقون فجوابه العفو على أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي الذي ينفقون العفو ومثلـه في التنزيل { وإذا قيل لـهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين } [النحل: 24] واعلم أن سيبويه لا يجوّز أن يكون ذا بمنزلة الذي إلا في هذا الموضع لما قامت الدلالة على ذلك والكوفيون يجيزون في غير هذا الموضع ويحتجون بقول الشاعر:

عَدَسْ ما لِعَبَّادٍ إمارَةٌنَجَوتِ وَهذا تَحْمِلينَ طَليقُ

وبقولـه سبحانه { وما تلك بيمينك يا موسى } [طه: 17] ولا دلالة لـهم في الآية فإن قولـه بيمينك يجوز أن يكون ظرفاً في موضع الحال فلا يكون صلة وكذلك تحملين في البيت والعامل في الحال في الموضعين ما في المبهم من معنى الفعل.
اللغة: الخمر أصلـه الستر والخمر ما واراك من الشجر وغيره ومنه الخِمار للمقنعة ودخل في خُمار الناس أي في الكثير الذي يستتر فيهم ويقال خامَرَه الداء إذا خالطه قال كثير:

هَنِيئاً مَرِيئاً غَيَر داءٍ مُخامِرٍ لِعِزّةَ مَنْ أعْراضِنا مَا اسْتَحَلَتِ

وخمرت الأناء أي غطيته وفي الحديث: "كان النبي يسجد على الخُمرة" وهي السجادة الصغيرة من الحصير سميت بذلك لأنها تستر الوجه عن الأرض قال الزجاج وقد لبس على أبي الأسود الدؤلي فقيل لـه إن هذا المسكر الذي سموه بغير الخمر حلال فظن أن ذلك كما قيل لـه ثم رده طبعه إلى أن حام بأنهما واحد فقال لـه:

دَعِ الْخَمرَ تَشْرَبْهَا الْغُواةُ فَإنَنَّي رَأَيْتُ أَخاها مُجْزِياً بِمَكانِها
فَإنْ لا يَكُنْــها أَو تَكُنْـــــه فَإنَّــــهُ أَخُوها غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبانِها

وأصل الباب الستر والميسر القمار اشتق من اليسر وهو وجوب الشيء لصاحبه من قولك يَسَرَ لي هذا الشيء يَيْسِر يَسْراً وميسراً إذا وجب لك والياسر الواجب بقداح وجب لك أو غيره وقيل للمقامر ياسر ويَسَر قال النابغة:

أَوْ ياسِرٌ ذَهَبَ القِداحُ بِوَفْرِهِ أَسِفٌ تَأَكَّلَـهُ الصَدِيقُ مُخَلَّعُ

أي قامر وقيل أخذ من التجزئة لأن كل شيء جزّاته فقد يسرته والياسر والجازر والميسر الجزور وقيل أخذ من اليُسْر وهو السهولة لأنهم كانوا يشتركون في الجزور ليسهل أمرها إلا أنه على جهة القمار والعفو مأخوذ من الزيادة ومنه قيل حتى عفوا أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد قال الشاعر:

وَلكِنَّا يَعَضُّ السَيْفُ مِنَّـــا بِأَسْوُقِ عافِيات الشَحم كُومِ

أي زائدات الشحم وقيل هو مأخوذ من الترك من قولـه: { فمن عفي لـه من أخيه شيء } أي ترك ومنه قولـه: "عفوت لكم عن صدقة الخيل" أي تركتها فيكون العفو المتروك غنى عنه والمخالطة مجامعة يتعذر معها التمييز كمخالطة الخل للماء وما أشبهه والخليطان الشريكان لاختلاط أموالـهما والخليط: القوم أمرهم واحد والإعنات الحمل على مشقة لا تطاق ثقلا وعنت العظم عنَتاً أصابه وهن أو كسر بعد جبر وعِنت عَنتا إذا اكتسب مأثما وتهنته إذا لبَّس عليه في سؤالـه لـه والأكمة العَنُوتُ الطويلة وأصل الباب المشقة والشدة.
الإعراب: العامل في الطرف من قولـه في الدنيا والآخرة قولـه يبين أي مبين لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة ويجوز أن يكون تتفكرون أيضاً أي تتفكرون في أمر الدنيا وأمر الآخرة وقولـه فإخوانكم رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره فهم إخوانكم ويجوز في العربية فإخوانكم على النصب على تقدير فإخوانكم يخالطون والوجه الرفع.
النزول: نزلت في جماعة من الصحابة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزلت الآية.
المعنى: ثم عاد سبحانه إلى بيان الشرائع والأحكام فقال: { يسألونك } يا محمد { عن الخمر } وهي كل شراب مسكر مخالط للعقل مغطّ عليه "وما أسكر كثيره فقليلـه حرام" هذا هو الظاهر في روايات أصحابنا وهو مذهب الشافعي وقيل الخمر عصير العنب إذا اشتد وغلى وهو مذهب أبي حنيفة: { والميسر }: وهو القمار كلـه عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة والحسن وهو المروي عن أئمتنا حتى قالوا أن لعب الصبيان بالجوز هو القمار { قل فيهما } أي في الخمر والميسر: { إثم كبير } أي وزر عظيم وكثير من الكثرة: { ومنافع للناس } منفعة الخمر ما كانوا يأخذونه في أثمانها وما يحصل من اللذة والطرب والقوة بشربها ومنفعة القمار هو أن يفوز الرجل بمال صاحبه من غير كد ولا مشقة ويرتفق به الفقراء: { وإثمهما أكبر من نفعهما } أي ما فيهما من الإثم أكبر مما فيهما من النفع لأن نفعهما في الدنيا وما يحصل من الإثم بهما يوجب سخط الله في الآخرة فلا يظهر في جنبه إلا نفع قليل لا بقاء لـه قال الحسن: في الآية تحريم الخمر من وجهين: أحدهما: قولـه وإثمهما أكبر فإنه إذا زادت مضرة الشيء على منفعته اقتضى العقل الامتناع عنه والثاني: أنه بيَّن أن فيهما الإثم وقد حرّم في آية أخرى الإثم فقال قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم وقيل إن الخمر يسمى إثماً في اللغة قال الشاعر:

شَرِبْتُ الإِثْمِ حَتى ضَلَّ عَقْلي كَــذاكَ الإثمُ يَصْنَعُ بالعُقُولِ

على أنه قد وصف الإثم بأنه كبير والكبير محرّم بلا خلاف. وقال الضحاك: معناه وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما، وقال سعيد بن جبير: كلاهما قبل التحريم يعني أن الإثم الذي يحدث من أسبابهما أكبر من نفعهما وقال قتادة هذه الآية لا تدل على تحريمهما وإنما تدل الآية التي في المائدة من قولـه { إنما الخمر والميسر } [المائدة: 90] إلى آخرها وقولـه: { ويسألونك ماذا ينفقون } أي أيّ شيء ينفقون والسائل عمرو بن الجموح سأل عن النفقة في الجهاد وقيل في الصدقات: { قل العفو } فيه أقوال أحدها: إنه ما فضل عن الأهل والعيال والفضل عن الغنى عن ابن عباس وقتادة وثانيها: أن العفو الوسط من غير إسراف ولا إقتار عن الحسن وعطا وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) وثالثها: أن العفو ما فضل عن قوت السنة عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: ونسخ ذلك بآية الزكاة وبه قال السدي ورابعها: أن العفو أطيب المال وأفضلـه وقولـه: (كذلك) إنما وحّد الكاف لأن الخطاب للنبي ويدخل فيه الأمة وقيل إن تقديره كذلك أيها القبيل.
{ يبين الله لكم الآيات } أي الحجج في أمر النفقة والخمر والميسر وقيل في سائر شرائع الإسلام: { لعلكم تتفكرون } أي لكي تتفكروا: { في الدنيا والآخرة } أي في أمر الدنيا وأمر الآخرة فتعلمون أن الدنيا دار بلاء وعناء وفناء والآخرة دار جزاء وبقاء فتزهدوا في هذه وترغبوا في تلك، وقيل إنه من صلة يبين أي كما يبين لكم الآيات في الخمر والميسر يبين لكم الآيات في أُمور الدنيا والآخرة لكي تتفكروا في ذلك دلالة على أن الله أراد منهم التفكر سواء تفكروا أو لم يتفكروا: { ويسألونك عن اليتامى } قال ابن عباس: لما أنزل الله
{ ولا تقربوا مال اليتيم } [الأنعام: 252] الآية و { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } [النساء: 10] انطلق كل من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه واشتد ذلك عليهم فسألوا عنه فنزلت هذه الآية ولا بد من إضمار في الكلام لأن السؤال لم يقع عن أشخاص اليتامى ولا ورد الجواب عنها فالمعنى: يسألونك عن القيام على اليتامى أو التصرف في أموال اليتامى قل يا محمد: { إصلاح لـهم خير } يعني إصلاح لأموالـهم من غير أُجرة عوض منهم خير وأعظم أجراً.
{ وإن تخالطوهم } أي تشاركوهم في أموالـهم وتخلطوها بأموالكم فتصيبوا من أموالـهم عوضاً عن قيامكم بأمورهم: { فإخوانكم } أي فهم إخوانكم والإخوانُ يُعين بعضهم بعضاً ويصيب بعضهم من مال بعض وهذا إذن لـهم فيما كانوا يتحرجون منه من مخالطة الأيتام في الأموال من المأكل والمشرب والمسكن ونحو ذلك ورخصة لـهم في ذلك إذا تحرّوا الصلاح بالتوفير على الأيتام عن الحسن وغيره وهو المروي في أخبارنا: { والله يعلم المفسد من المصلح } معناه والله يعلم من كان غرضه من مخالطة اليتامى إفساد مالـهم أو إصلاح مالـهم.
{ ولو شاء الله لأعنتكم } أي لضيَّق عليكم في أمر اليتامى ومخالطتهم وألزمكم ما كنتم تجتنبونه من مشاركتهم وقال الزجاج: معناه لكلّفكم ما يشقّ عليكم فتعنتون ولكنه لم يفعل وفي هذا دلالة على بطلان قول المجبرة لأنه سبحانه إذا لم يشأ إعناتهم ولو أعنتهم لكان جائزاً حسناً لكنه وسَّع عليهم لما في التوسعة من النعمة فكيف يصح أن يشاء تكليف ما لا يطاق وكيف يكلف ما لا سبيل للمكلف إليه ويأمره بما لا يتصور إحداثه من جهته وأيّ عنت أعظم من هذا قال البلخي وفيه أيضاً دلالة على فساد من قال أنه تعالى لا يقدر على الظلم لأن الإعنات بتكليف ما لا يجوز في الحكمة مقدور ولو شاء لفعلـه: { إن الله عزيز } يفعل بعزته ما يحب لا يدفعه عنه دافع: { حكيم } في تدبيره وأفعالـه ليس لـه عما توجبه الحكمة مانع.