التفاسير

< >
عرض

لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٢٦
وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٢٧
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: آلى الرجل من امرأته يؤلي إيلاء من الإلية والألوة وهي الحلف قال الشاعر:

كَفَيْنَا مَنْ تَغَيَّبَ مِنْ نَزَارٍ وَأَحْنَثْنَا إِليـــةَ مُقْسِمِيــنا

وائتلى وتألى بمعناه وفي التنزيل { { ولا يأتل أولوا الفضل منكم } [النور: 22] وقرىء ولا يتأل وجمع الألية ألايَا وألِيَّات كعشية وعشايا وعشيات وجمع الأَلُوة ألايِي كرِكوبة وركائب والتربص الانتظار ويقال تربصت به قال الشاعر:

تَرَبَّصْ بها رَيْبَ المَنُونِ لَعَلَّـها تُطَلَّقُ يَوْماً أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُـها

والفيء الرجوع يقال فاء يفيء فيئاً إذا رجع وفاء الفيء إذا تحول عن جهة الغداة برجوع الشمس عنه، والفرق بين الفيء والظل ما قال المبرد أن الفيء ما نسخ الشمس لأنه هو الراجع والظل ما لا شمس فيه وكل في ظل وليس كل ظل فيئاً وأهل الجنة في ظل لا في فيء لأن الجنة لا شمس فيها، وفي التنزيل { وظلٍ ممدود } [الواقعة: 30] وجمع الفيء أفياء والفيء غنائم المشركين أفاء الله علينا منهم وهو من رجوع الشيء إلى حقه وفلان سريع الفيء من غضبه أي الرجوع والعزم. هو العقد على فعل شيء في مستقبل الأوقات وهو إرادة متقدمة للفعل بأكثر من وقت واحد يتعلق بفعل اللازم يقال عزم على الشيء يعزم عزماً واعتزم وعزمت عليك لَتَفعلنّ أي أقسمت وعزم الراقي كأنه أَقسم على الداء وما لِفلان عَزيمة أي ما يثبت على شيء لتلوّنه وعزائم القرآن التي تقرأ على ذوي الآفات لما يترجى من البرء بها والطلاق حلّ عقد النكاح بسبب من جهة الرجل وامرأة طالق زعم قوم أن تاء التأنيث إنما حذفت لأنه لا حظ فيه للمذكر وهذ ليس بشيء لأن في الكلام أشياء كثيرة يشترك فيها المذكر والمؤنث لا يثبت فيها الـهاء في المؤنث يقال بعير ضامر وناقة ضامر وأمثالـه كثيرة. وقال سيبويه: إنه وقع على لفظ التذكير صفة للمؤنث لأن المعنى شيء طالق وحقيقته أنه على جهة النسب نحو قولـهم امرأة مُطْفِل أي ذات طفل وطالق أي ذات طلاق فإذا أجريته على الفعل قلت طالقة قال الأعشى:

أَيا جَارتي بِينِي فَإِنَّكِ طالِقة كَذاكَ أُمُورُ الناسِ غادٍ وطارِقَة

وأصل الطلاق من الانطلاق وطَلقتِ المرأةُ عند الولادة فهي مطلوقة إذا تمخضت، والطَلَق الشوط من الجري، والطَلَق الحبل الشديد الفتل، والسميع من كان على صفة يجب لأجلـها أن يدرك المسموعات إذا وجدت وهي ترجع إلى كونه حياً لا آفة به، والسامع المدرك ويوصف القديم سبحانه في الأزل بأنه سميع ولا يوصف في الأزل بأنه سامع إنما يوصف به إذا وجدت المسموعات.
الإعراب: يجوز في أربعة أشهر ثلاثة أوجه الجر على الإضافة وعليه القراءة وهذه الإضافة غير حقيقية فإن الأربعة في محل النصب وإن كان مجرور اللفظ ويجوز في العربية الرفع والنصب تَربصٌ أربعةُ أشهر كقولـه
{ { فشهادة أحدهم أربعُ شهادات بالله } [النور: 6] ومثلـه: { فجزاء مثل ما قتل من النعم } [المائدة: 95] وتَربَصٌ أربعةُ أشهر كقولـه: { ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً } [المرسلات: 25] أي: تكفتكم أحياء وأمواتاً.
المعنى: ثمَّ بيَّن تعالى حكم الإيلاء لأنه من جملة الأيمان والأقسام وشريعة من شرائع الإسلام فقال { للذين يؤلون } أي يحلفون وفيه حذف أي أن يعتزلوا عن وطء نسائهم على وجه الإضرار بهن { تربص أربعة أشهر } أي التوقف والتثبت في أربعة أشهر واليمين التي يكون الرجل بها مولياً هي اليمين بالله عز وجل أو بشيء من صفاته التي لا يشاركه فيها أحد غيره على وجه لا يقع موقع اللغو الذي لا فائدة فيه ويكون الحلف على الامتناع من الجماع على وجه الغضب والضرار وهو المروي عن علي وابن عباس والحسن وقيل في الغضب والرضا عن إبراهيم والشعبي وجماعة من الفقهاء وقيل هو في الجماع وغيره من الضرار نحو أن يحلف لا يكلمها عن سعيد بن المسيب.
{ فإن فاءوا } أي رجعوا إلى أمر الله بأن يجامعوا عند القدرة عليه أو يراجعوا بالقول عند العجز عن الجماع عن ابن عباس ومسروق وسعيد بن المسيب وهو مذهبنا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وقيل يكون فائياً بالعزم في حال العذر إلا أنه ينبغي أن يشهد على فيئه عن الحسن وإبراهيم وعلقمة، وهذا يكون عندنا للعاجز عن الجماع ويجب الفائي عندنا كفارة ولا عقوبة عليه وبه قال ابن عباس وسعيد بن المسيب وقتادة، وقال الحسن وإبراهيم لا كفارة عليه ولا عقوبة لقولـه { فإن الله غفور رحيم } ومعنى غفور عندنا أنه لا يتبعه بعقوبة ومن حلف أن لا يجامع أقل من أربعة أشهر لا يكون مولياً ومن حلف أن لا يقربه وهي مرضعة مخافة أن تحبل فيضرّ ذلك بولدها لا يلزمه حكم الإيلاء وإذا مضت أربعة أشهر ولم يجامع ألزمه الحاكم إما الرجوع والكفارة وإما الطلاق فإن امتنع حبسه حتى يفيء أو يطلّق.
{ وإن عزموا الطلاق } عزيمة الطلاق عندنا أن يعزم ثم يتلفظ بالطلاق ومتى لم يتلفظ بالطلاق على الوجه المشروع فإن المرأة لا تبين منه إلا أن تستعدي فإن استعدت وأنظره الحاكم أربعة أشهر فإنه يوقف عند الأشهر الأربعة ويقال لـه فئ أو طلق فإن لم يفعل حبسه حتى يطلّق وبه، قال الشافعي إلا أنه قال متى امتنع من الطلاب والفئة طلّق عنه الحاكم طلقة رجعية، وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا مضت أربعة أشهر ولم يفئ بانت منه بتطليقة ولا رجعة لـه عليها وعليها العدة يخطبها في العدة ولا يخطبها غيره { فإن الله سميع عليم } يسمع قولـه ويعلم ضميره وقيل يسمع إيلاءه ويعلم نيّته وإنما ذكر عقيب الأول فإن الله غفور رحيم لأنه لما أخبر عن المولى أنه يلزمه الفيء أو الطلاق بيّن أنه إن فاء فإن الله غفور رحيم بأن يقبل رجوعه ولا يتبعه بعقاب ما ارتكبه وذكر هنا أنه سميع عليم لما أخبر عنه بإيقاع الطلاق وكان ذلك مما يسمع أخبر بأنه لا يخفى عليه وأنه يسمعه فكل لا يليق إلا بموضعه وذلك من عظيم فصاحة القرآن.