التفاسير

< >
عرض

وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢٣٣
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل البصرة وابن كثير وقتيبة عن الكسائي لا تضار بالرفع وتشديد الراء، وقرأ أبو جعفر وحده بتخفيف الراء وسكونها والباقون بتشديدها وفتحها وقرأ ابن كثير وحده ما أتيتم مقصورة الألف والباقون ما أُتيتم وكذلك في الروم.
الحجة: من رفع فلأن قبلـه لا تكلف فاتبعه ما قبلـه ليكون أحسن لتشابه اللفظ فإن قلت إن ذلك خبر وهذا أمر قيل إن الأمر قد يجيء على لفظ الخبر في التنزيل ألا ترى إلى قولـه { والمطلقات يتربصن بأنفسهن } ويؤكد ذلك أن ما بعده على لفظ الخبر وهو قولـه: { وعلى الوارث مثل ذلك } والمعنى ينبغي ذلك فلمّا وقع موقعه صار في لفظه ومن فتح جعلـه أمراً وفتح الراء ليكون حركته موافقة لما قبلـها وهو الف وأمّا قراءة أبي جعفر لا تضار فينبغي أن يكون أراد لا تضار كما روي في الشواذ عن أبان عن عاصم إلا أنه حذف إحدى الرائين تخفيفاً كما قالوا أحست في أحسست وظلت ومست في ظللت ومسست ومن قرأ آتيتم فالمراد إيتاء المهر كقولـه
{ وآتيتم إحداهن قنطاراً } [النساء: 20] وقولـه { { إذا آتيتموهن أجورهن } [المائدة: 5] وأما قول ابن كثير فتقديره إذا سلمتم ما أتيتم نقده أو أتيتم سوقه فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ثم حذف الـهاء من الصلة فكأنه أتيت نقدَ ألفٍ أي بذلتُه كما يقول أتيت جميلاً أي فعلته ويؤيّده قول زهير:

فَما يَكُ مِنْ خَيْرٍ أتَوهُ فَإِنّما تَوارَثَهُ آبـــاءُ آبائِهِـــمْ قَبْلُ

فكما تقول أتيت خيراً فكذلك تقول أتيت نَقْدَ ألفٍ وقد وقع أتيت موضع آتيت ويجوزان يكون ما في الآية مصدراً فيكون التقدير إذا سلمتم الإتيان والإتيان المأتى مما يبذل بسوق أو نقد كقولـك ضَرْبُ الأمير أي مضروبه.
اللغة: الرضع مصّ الثدي بشرب اللبن منه يقال رَضِعَ وَرَضَعَ والمصدر الرَضْع والرَّضِعَ والرِّضَّاع والرِضَّاعة ولئيم راضع يرضع لبن ناقته مِن لؤْمه لئلا يسمع الضيف صوت الشُخْب وأرضعت المرأة فهي مرضع وقولـهم مرضع بغير هاء ذات رضاع والحول السنة مأخوذ من الانقلاب في قولك حال الشيء عما كان عليه يحول ومنه الاستحالة في الكلام لانقلابه عن الصواب وقيل أخذ من الانتقال من قولك تحول عن المكان والكسوة مصدر كسوته ثوباً أي ألبسته واكتسى أي لبس والكسوة اللباس والتكليف الإلزام الشاق وأصلـه من الكَلَف وهو ظهور الأثر لأنه يُلزمه ما يظهر فيه أثره وتَكلَّف أي تَحمَّل والكَلَف بالشيء الإيلاع به والوسع الطاقة مأخوذ من سعة المسلك إلى الغرض فيمكن لذلك فلو ضاق لأعجز عنه والسعة فيه القدرة فلذلك قيل الوسع بمعنى الطاقة والفصال الفطام لانفصال المولود عن الاغتذاء بثدي أمه إلى غيره من الأقوات وفصيلة الرجل بنو أبيه لانفصالـهم من أصل واحد والفصل الفرق والتشاور مأخوذ من الشور وهو اجتناء العسل تقول شُرْتُ العسلَ أشوره شوراً إذا اجتنيته من مكانه والمَشُورة استخراج الرأي من المستشار لأنها تجتنى منه وأشار إليه إشارة أومى إليه والمُشيرة الأصبع التي تسمّى السبابة لأنه يشار بها والشارة الـهيئة واللباس الحَسَن لأنه مما يشار إليه لحسنه والتشوير استخراج سير الدابة كالاجتناء.
الإعراب: عن تراض في موضع الحال تقديره فإن أراد متراضيين منهما في موضع جر صفة لتراض أن تستعرضوا أولادكم معناه لأولادكم فحذفت اللام لدلالة الاسترضاع عليه من حيث إنه لا يكون إلا للأولاد ولا يجوز دعوت زيداً تريد لزيد لأنه لا يجوز أن يكون مدعواً لـه إذ معنى دعوت زيداً لعمرو خلاف دعوت زيداً فقط فلا يجوز للالتباس وقولـه { بالمعروف } جاز أن يتعلق بسلمتم كأنه قال إذا سلمتم بالمعروف ما أتيتم ويجوز أن يتعلق بأتيتم على حد قولك أتيته بزيد.
المعنى: لمّا بَيَّن سبحانه حكم الطلاق عقَّبَه ببيان أحكام الأولاد الصغار في الرضاع والتربية وما يجب في ذلك من الكسوة والنفقة فقال: { والوالدات } أي أولادهن صيغته صيغة الخبر والمراد به الأمر أي ليرضعن أولادهن كقولـه { يتربصن بأنفسهن } وجاز ذلك التصرف في الكلام مع رفع الإشكال إذ لو كان خبراً لكان كذباً لجواز أن يرضعن أكثر من حولين أو أقل وقولك حسبك درهم معناه اكتف بدرهم تام وقيل هو خبر بمعنى الأمر وتقديره والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين في حكم الله الذي أوجبه على عباده فحذف للدلالة عليه وهذا أمر استحباب لا أمر إِيجاب والمعنى إِنهن أحق برضاعهم من غيرهن بدليل قولـه
{ { وإن تعاسرتم فسترضع لـه أخرى } [الطلاق: 6].
ثم بيّن مدة الرضاع فقال: { حولين كاملين } أي عامين تامين أربعة وعشرين شهراً وإنما ذكر كاملين وإِن كانت التثنية تأتي على استيفاء العدة لرفع الإِبهام الذي يعرض في الكلام فإِن الرجل يقول سرت شهراً وأقمت عند فلان سنة وإِن كان قد سار قريباً من شهر وأقام قريباً من سنةٍ وفي هذا بيان لأمرين أحدهما: مندوب والثاني: فرض، فالمندوب وهو أن يجعل الرضاع تمام الحولين والمفروض هو أن المرضعة تستحق الأجرة في مدة الحولين ولا تستحق فيما زاد عليه، واختلف في هذا الحدّ هل هو لكل مولود أو للبعض فقال ابن عباس: ليس لكل مولود ولكن لمن ولد لستة أشهر وإن ولد لسبعة أشهر فثلاثة وعشرون وإِن ولد لتسعة أشهر فواحد وعشرون يطلب بذلك تكملة ثلاثين شهراً في الحمل والفصال، وعلى هذا يدل ما رواه أصحابنا في هذا الباب لأنهم رووا أن ما نقص عن وأحد وعشرين شهراً فهو جور على الصبي وقال الثوري وجماعة هو لازم في كل ولد إِذا اختلف والده رجعا إلى الحولين من غير زيادة ولا نقصان ولا يجوز لـهما غير ذلك والرضاع بعد الحولين لا حكم لـه في التحريم عندنا وبه قال ابن عباس وابن مسعود وأكثر العلماء قالوا المراد بالآية بيان التحريم الواقع بالرضاع ففي الحولين يحرم وما بعده لا يحرّم وقولـه { لمن أراد أن يتم الرضاعة } أي لمن أراد أن يتم الرضاعة المفروضة عليه وهذا يدل على أن الرضاع غير مستحق على الأم لأنه عَلّقه بالإرادة ويدل عليه قولـه { وإن تعاسرتم فسترضع لـه أخرى } وقال قتادة والربيع فرض الله على الوالدات أن يرضعن أولادهن حولين ثم أنزل الرخصة بعد ذلك فقال لمن أراد أن يتم الرضاعة يعني إِن هذا منتهى الرضاع فيما دون ذلك حد محدود وإِنما هو على مقدار صلاح الصبي وما يعيش به { وعلى المولود لـه } يعني الأب { رزقهن } يعني الطعام والإدام { وكسوتهن } يعني لباسهن والمراد رزق الأم وكسوتها ما دامت في الرضاعة اللازمة وذلك في المطلقة عن الثوري والضحاك وأكثر المفسرين { بالمعروف } يعني على قدر اليسار لأنه عَلِمَ أحوال الناس في الغنى والفقر وجعل حق الحضانة للأم والنفقة على الأب على قدر اليسار ولم يرد به نفقة الزوجات لأنه قابلـها بالإرضاع ونفقة الزوجة لا تجب بسبب الإرضاع وإنما تجب بسبب الزوجية وقال بعضهم: أراد به نفقة الزوجات وقولـه { لا تكلف نفس إلا وسعها } أي لا يلزم إِلا دون طاقتها { لا تضار والدة بولدها } أي لا تترك الوالدة إرضاع ولدها غيظاً على أبيه فتضّر بولده به لأن الوالدة أشفق عليه من الأجنبية { ولا مولود لـه بولده } أي لا يأخذه من أمه طلباً للإضرار بها فيضرّ بولده فيكون المضارة على هذا بمعنى الإضرار أي لا تضر الوالدة ولا الوالد بالولد وإِنما قال تضار والفعل من واحد لأنه لما كان معناه المبالغة كان بمنزلة أن يكون الفعل من اثنين وقيل الضرر يرجع إلى الولد كأنه يقول لا يضار كل واحد من الأب والأم بالصبي الأم بأن لا ترضعه والأب بأن لا ينفق أو بأن ينتزعه من الأم والباء زائدة والمعنى لا تضار والدة ولدها ولا والد ولده وقيل معناه لا تضار والدةٌ الزوجَ بولدها ولو قيل في ولدها لجاز في المعنى وروي عن السيدين الباقر والصادق (ع) لا تضار والدة بأن يترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها المرتضع { ولا مولود لـه بولده } أي لا تمنع نفسها من الأب خوف الحمل فيضر ذلك بالأب وقيل لا تضار والدة بولدها بأن ينتزع الولد منها ويسترضع امرأة غيرها مع إجابتها إلى الرضاع بأجرة المثل فعلى هذا يكون معنى بولدها بسبب ولدها ولا مولود لـه لا تمتنع هي من الإِرضاع إذا أعطيت أجرة مثلـها فإِن فعلت استأجر الأب مرضعة ترضعه غيرها ولا تمنعه من رؤية الولد، فيكون فيه مضارة بالوالد وقولـه بولده بسبب ولده أيضاً وليس بين هذه الأقوال تناف فالأولى حمل الآية على جميعها وقولـه { وعلى الوارث } قيل معناه وارث الولد عن الحسن وقتادة والسدي وهو من يرثه إذا مات وقيل وارث الوالد عن قبيصة بن ذؤيب والأول أقوى { مثل ذلك } أي مثل ما كان على الوالد من النفقة والرّضاع عن الحسن وقتادة وقيل مثل ما كان الوالد من ترك المضارة عن الضحاك والمفهوم عند أكثر العلماء الأمران معاً وهو أليق بالعموم واختلفوا في أن النفقة على كل وارث أو على بعضهم فقيل هي على العصبات دون أصحاب الفرائض من الأم والأخوة من الأم عن عمر بن الخطاب والحسن وقيل على وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث عن قتادة وقيل على الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون ذي رحم ليس بمحرم كابن العم وابن الأخت فيجب على ابن الأخت ولم يجب على ابن العم وإِن كان وارثه في تلك الحال عن أبي حنيفة وصاحبيه وقيل على الوارث أي الباقي من أبويه عن سفيان وهو الصحيح عندنا وهو أيضاً مذهب الشافعي لأن عنده لا يجبر على نفقة الرضاع إِلا الولدان فقط وقد روي أيضاً في أخبارنا أن على الوارث كائناً من كان النفقة وهذا يوافق الظاهر وبه قال قتادة وأحمد وإسحاق وقولـه: { فإن أراد فصالاً } أي قبل الحولين عن مجاهد وقتادة وهو المروي عن أبي عبد الله وقيل قبل الحولين أو بعدهما عن ابن عباس { عن تراض منهما } أي من الأب والأم { وتشاور } يعني اتفاق منهما ومشاورة وإنما بشرط تراضيهما وتشاورهما مصلحة للولد لأن الوالدة تعلم من تربية الصبي ما لا يعلمه الوالد فلو لم يتفكروا ويتشاورا في ذلك أدى إلى ضرر الصبي { فلا جناح عليهما } أي لا حرج عليهما إِذا تماسك الولد فإن تنازعا رجعا إلى الحولين.
وقولـه: { وإن أردتم } خطاب للآباء { أن تسترضعوا أولادكم } أي لأولادكم أن تطلبوا لـهم مراضع غير أمهاتهم لإِباء أمهاتهم الرضاع أو لعلة بهن من انقطاع لبن أو غيره { فلا جناح عليكم } أي لا حرج ولا ضيق في ذلك { إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف } أي إِذا أسلمتم إلى الأم أجرة المثل مقدار ما أرضعت عن مجاهد والسدي وقيل: إِذا سلمتم الإسترضاع عن تراض واتفاق دون ذلك الضرار عن أبي شهاب وهذا معنى قول ابن عباس، وفي رواية عطاء قال إِذا سلمت أمه ورضي أبوه لعل لـه غنى يشتري لـه مرضعاً وقيل إِذا سلمتم أجرة المسترضَعة عن الثوري وقيل إِذا سلمتم أجرة الأم أو الظئر عن ابن جريج ومعنى قولـه { آتيتم } ضمنتم وألزمتم ثم أوصى بالتقوى فقال { واتقوا الله } يعني معاصيه أو عذابه في مجاوزة ما حده لكم { واعلموا أن الله بما تعملون } أي بأعمالكم { بصير } أي عليم لا يخفى عليه شيء منها وفي قولـه { لا تكلّف نفس إِلا وسعها } دلالة على فساد قول المجبرة في حسن تكليف ما لا يطاق لأنه إِذا لم يجز أن يكلف مع عدم الجدة فإن لا يكلف مع عدم القدرة أخرى فإِن في الحالين لا سبيل لـه إلى أداء ما كلف.