التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ
٢٤٦
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ نافع وحده عسيتم بكسر السين والباقون بفتحها.
الحجة: المشهور في عسيت فتح السين ووجه قراءة نافع أنهم قالوا هو عَسٍ بذلك وما عساه واعس به حكاه ابن الأعرابي. وهذا يقوي قراءة نافع لأن عسٍ مثلٍ حرٍ وشجٍ وقد جاء فَعَل وفَعِل مثل نَقَم ونَقِم ووَرَتْ بك زِنادي ووَرِيتْ فكذلك عَسَتْ وعَسِيَتْ فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن تقول عَسِى زيدٌ مثل رَضِي فإن قالـه فهو قياس قولـهِ وإن لم يقلـه فسائغ لـه أن يأخذ باللغتين معاً ويستعمل احداهما في موضع والأخرى في موضع آخر كما فعل ذلك غيره.
اللغة: الملأ الجماعة الأشراف من الناس
" "وروي أن رجلاً من الأنصار قال يوم بدر إن قتلنا إلاّ عجايز صُلْعاً فقال النبي: أولئك الملأ من قريش لو رأيتهم في أنديتهم لـهبتهم ولو أمروك لأطعتهم ولاحتقرت فعالك عند فعالـهم" " وملأت الإناء أترعته لأنه يجتمع فيه مالاً يكون مزيد عليه ومالأت الرجل عاونته وتَمالأوا على ذلك إذا تعاونوا وملأ الرجل ملاءة فهو ملّي بالأمر إذا أمكنه القيام به والملأ الخلق لأن جميع أفعال صاحبه يجري عليه يقال أحسنوا أملاءكم أي أخلاقكم قال:

تَنَادَوْا يالَ بُهْثَةَ إذْ رَأوْنا فَقُلْنَا أحْسِنِي مَلأً جُهَيْنا

وأصل الباب الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد وإنما سمي الأشراف ملأ لأنه لا مزيد على شرفهم وقيل لأن هيبتهم تملأ الصدور والملأ مقصوراً المتسع من الأرض قال الشاعر:

ألا غَنِيّانِي وَارْفَعا الصّوْتَ بِالمَلا فَإنَّ الْمِــــلا عِنْدي يزيدُ المدَى بَعْدا

الإعراب: من بني إسرائيل الجار والمجرور في محل النصب على الحال والعامل فيه تر وذو الحال الملأ و من بعد موسى في موضع الحال أيضاً وهو حال بعد حال أو حال من الضمير في الجار والمجرور قبلـه وقولـه نقاتل جزم على الجواب للمسألة التي هي على لفظ الأمر أي أن تبعث لنا ملكاً نقاتل ولو كان بالياء لجاز الرفع على أن يكون صفة للملك قال الزجاج: والرفع في نقاتل بعيد يجوز على معنى فإنا نقاتل في سبيل الله وكثير من النحويين لا يجيز الرفع فيه وقولـه ألا تقاتلوا في موضع نصب لأنه خبر عسى وقولـه وما لنا أن لا نقاتل قال أبو الحسن الأخفش فيه وفي قولـه ما لكم أن لا تأكلوا إن أنْ زائدة كأنه قال ما لنا لا نقاتل وما لكم لا تأكلون كقولـه ما لكم لا تنطقون وما لك لا تأمنا وقع الفعل المنفي موقع الحال كما وقع الموجب موقعه في قولك ما لك تفعل، وقد يقال أيضاً في نحو ذلك أن المعنى وما لنا في أن لا نقاتل وما لكم في أن لا تأكلوا فكأنه حمل الآية على وجهين قال أبو علي: والقول الثاني أوضح ويكون أنْ مع حرف في موضع نصب الحال كقولـه تعالى: { { فما لـهم عن التذكرة معرضين } [المدثر: 49] ونحو ذلك ثم حذف الجار وسدّ أن وصلتها ذلك المسدّ والحال في الأصل هو الجالب للحرف المقدر إلا أنه ترك اظهاره لدلالة المنصوب عنه عليه ومثلـه في وقوع الظرف موقع الحال قول أبي ذؤيب:

يَعْثُرْنَ في حَدِّ الظّبُاةِ كَأنّما كُسِيَتْ بُرُودَ بَني يَزْيَدِ الأذْرُعُ

وهذا كما يقال خرجت في الثياب أي خرجت لابساً، ووجه ثالث ذكره المبرد وهو أن يكون ما جحدوا وتقديره وما لنا نترك القتال وعلى الوجهين الأولين يكون ما استفهاماً وقد أخرجنا جملة في موضع الحال وتقديره وما لنا إلا نقاتل مخرجين من ديارنا وذو الحال الضمير في ألا نقاتل وقليلاً منصوب على الاستثناء من الموجب.
المعنى: لما قَدّم تعالى ذكر الجهاد عَقّبه بذكر القصة المشهورة في بني إسرائيل تضمنت شرح ما نالـهم في قعودهم عنه تحذيراً من سلوك طريقهم فيه { ألم تر } أي ألم ينته علمك يا محمد { إلى الملأ } أي جماعة الأشراف { من بني إسرائيل من بعد موسى } أي من بعد وفاته { إذ قالوا لنبي لـهم } اختلف في ذلك النبي فقيل اسمه شمعون سَمَّته أمّه بذلك لأن أمه دعت إلى الله أن يرزقها غلاماً فسمع الله دعاءها فيه وهو شمعون بن صفية من ولد لاوي بن يعقوب عن السُدّي وقيل هو يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف بن يعقوب عن قتادة، وقيل هو أشمويل وهو بالعربية إسماعيل عن أكثر المفسرين وهو المروي عن أبي جعفر.
{ ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله } اختلف في سبب سؤالـهم ذلك فقيل كان سبب سؤالـهم ذلك استذلال الجبابرة لـهم لما ظهروا على بني إسرائيل وغلبوهم على كثير من ديارهم وسبوا كثيراً من ذراريهم بعد أن كانت الخطايا قد كثرت في بني إسرائيل وعظمت فيهم الأحداث ونسوا عهد الله تعالى ولم يكن لـهم نبي يدبّر أمرهم فبعث الله إليهم أشمويل نبيّاً فقالوا لـه: إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك عن الربيع والكلبي، وقيل أرادوا قتال العمالقة فسألوا ملكاً يكون أميراً عليهم تنتظم به كلمتهم ويجتمع أمرهم ويستقيم حالـهم في جهاد عدّوهم عن السدي، وقيل بعث الله أشمويل نبياً فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فقالوا لأشمويل أبعث لما ملكاً عن وهب، وقال أبو عبد الله كان الملك في ذلك الزمان هو الذي يسير بالجنود والنبي يقيم لـه أمره وينبئه بالخبر من عند ربه فأجابهم نبيّهم فقال { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال } أي لعلكم أن فرض عليكم المحاربة مع ذلك الملك { أن لا تقاتلوا } أن لا تفوا بما تقولون وتجبنوا فلا تقاتلوا وإنما سألـهم عن ذلك ليعرف ما عندهم من الحرص على القتال وهذا كأخذ العهد عليهم ومعنى عسيتم قاربتم فإذا قلت عسيت أن أفعل كذا فمعناه قاربت فعلـه.
{ قالوا } يعني قال الملأ { وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله } معناه وأيّ شيء لنا في ترك القتال وقيل معناه ليس لنا ترك القتال { وقد أخرجنا } لفظه عام ومعناه خاص أي قد أخرج بعضنا { من ديارنا وأبنائنا } أوطاننا وأهالينا بالسبي والقهر على نواحينا والمعنى أنهم أجابوا نبيهم بأن قالوا إنما كنا لا نرغب في القتال إذ كنا أعزاء لا يظهر علينا عدّونا فأما إذا بلغ الأمر هذا المبلغ فلا بد من الجهاد { فلما كتب عليهم القتال } فيه حذف تقديره فسأل النبي الله تعالى أن يبعث لـهم ملكاً يجاهدون معه أعداءهم فسمع الله دعوته وأجاب مسألته فبعث لـهم ملكاً وكتب عليهم القتال أي فرض فلما كتب عليهم القتال { تولّوا } أي أعرضوا عن القيام به وضيّعوا أمر الله { إلا قليلاً منهم } وهم الذين عبروا النهر على ما نبيّنه من بعد { والله عليم بالظالمين } هذا تهديد لمن يتولى عن القتال لأنهم ظلموا أنفسهم بمعصية الله.