التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ
٢٧
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: النقض نقيض الإبرام والعهد العقد والعهد الموثق والعهد الالتقاء وهو قريب العهد بكذا, وعهد الله وصيته وأمره يقال عهد الخليفة إلى فلان بكذا أي أمره وأوصاه به ومنه قولـه تعالى: { { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ } [يس: 60] والميثاق ما وقع التوثيق به كما أن الميقات ما وقع التوقيت به ويقال فلان ثقة يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ويقال ثقات في الرجال والنساء, والقطع الفصل بين الشيئين وأصل ذلك في الأجسام ويستعمل ذلك أيضاً في الأعراض تشبيهاً به يقال قطع الحبل وقطع الكلام والأمر هو قول القائل لمن دونه أفعل هذه صيغته ثم يصير أمراً المأمور به وصيغة الأمر تستعمل في الإباحة نحو قولـه فاصطادوا, وفي التهديد نحو قولـه اعملوا ما شئتم, وفي التحدي نحو قولـه فأتوا بسورة من مثله. وفي التكوين كقولـه كن فيكون. والأصل في الجميع الطلب والوصل نقيض الفصل وهو الجمع بين شيئين من غير حاجز والخسران النقصان والخسار الهلاك والخاسرون الهالكون وأصل الخسران ذهاب رأس المال.
الإعراب: الذين ينقضون في موضع النصب لأنها صفة الفاسقين وأولئك مبتدأ والخاسرون خبره وهم فصل ويجوز أن يكون مبتدءاً والخاسرون خبره والجملة خبر أولئك وقولـه من بعد ميثاقه من مزيدة وقيل معناه ابتداء الغاية والهاء في ميثاقه عائد إلى العهد ويجوز أن يكون عائداً إلى اسم الله تعالى وقولـه أن يوصل بدل من الهاء التي في به أي ما أمر الله بأن يوصل فهو في موضع جَرّبه.
المعنى: ثم وصف الله الفاسقين المذكورين في الآية فقال هم { الذين ينقضون عهد الله } أي يهدمونه لا يفون به وقيل في عهد الله وجوه أحدها: أنه ركّب في عقولـهم من أدلة التوحيد والعدل وتصديق الرسل وما احتج به لرسله من المعجزات الشاهدة لهم على صدقهم ونقضهم لذلك تركهم الإقرار بما قد بُيّنت لهم صحته بالأدلة وثانيها: أنه وصية الله إلى خلقه على لسان رسوله بما أمرهم به من طاعته ونهاهم عنه من معصيته ونقضهم لذلك تركهم العمل به وثالثها: أن المراد به كفار أهل الكتاب وعهد الله الذي نقضوه { من بعد ميثاقه } هو ما أخذه عليهم في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والتصديق بما جاء به من عند ربه ونقضهم لذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وكتمانهم ذلك عن الناس بعد أن أخذ الله ميثاقهم ليبينه للناس ولا يكتمونه وأنهم إن جاءهم نذير آمنوا به فلما جاءهم النذير ازدادوا نفوراً ونبذوا العهد وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً واختار هذا الوجه الطبري.
ورابعها: أنه العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم كما وردت به القصة وهذا الوجه ضعيف لأنه لا يجوز أن يحتج على عباده بعهد لا يذكرونه ولا يعرفونه ولا يكون عليه دليل.
وقولـه تعالى: { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } معناه أمروا بصلة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فقطعوهم عن الحسن وقيل أمروا بصلة الرحم والقرابة فقطعوها عن قتادة, وقيل أمروا بالإيمان بجميع الأنبياء والكتب ففرقوا وقطعوا ذلك وقيل أمروا بأن يصلوا القول بالعمل ففرقوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا وقيل معناه الأمر بوصل كل من أمر الله بصلته من أوليائه والقطع القطع والبراءة من أعدائه وهذا أقوى لأنه أعم ويدخل فيه الجميع وقولـه: { ويفسدون في الأرض } قال قوم استدعاؤهم إلى الكفر هو الفساد في الأرض وقيل إخافتهم السبيل وقطعهم الطريق وقيل نقضهم العهد وقيل أراد كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها والأولى حمله على العموم { أولئك هم الخاسرون } أي اهلكوا أنفسهم فهم بمنزلة من هلك رأس ماله وروي عن ابن عباس أن كل ما نسبه الله تعالى من الخسار إلى غير المسلمين فإنما عنى به الكفر وما نسبه إلى المسلمين فإنما عنى به الدنيا.