التفاسير

< >
عرض

لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَٰـنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٢٨٦
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الوسع ما دون الطاقة ويسمى ذلك وسعاً بمعنى أنه يسع الإنسان ولا يضيق عنه وأخطأنا أي كسبنا خطيئة وقال أبو عبيدة أخطأ وخِطئ لغتان والفرق بين أخطأ وخطئ أن أخطأ قد يكون على وجه الإثم وغير الإثم فأما خطئ فالإثم لا غير قال الشاعر:

وَالناسُ يَلْحُونَ الأَميرَ إِذا هُمُ خَطِئُوا الصَّوابَ وَلا يلاَمُ المُرشِدُ

والأصر في اللغة الثقل قال النابغة:

يا مانِعَ الضَيْمَ أَنْ يَغْشى سُراتَهُمُ وَالحامِلَ الأَصْرَ عَنْهُمُ بَعْدَما غَرِقُوا

وكل ما عطفك على شيء من عهد أو رحم فهو أصر وجمعه أصار ويقال أصَرَه يأصره أصراً والإسلام الإصر قال النابغة:

يا ابنَ الحَواضِنِ وَالحْاضِنا تِ أَتَنْقُضُ إصْرَكَ حالاً فَحالاَ

أي عهدك والآصرة صلة الرحم للعطف لـها قال الكميت:

نَضَحْتُ أديمَ الوُدِّ بَيْني وَبَيْنَهُمْ بــــآصِرَةِ الأَرْحــامِ لَوْ تَتَبَلَّلُ

المعنى: ثم بيّن سبحانه أنه فيما أمر ونهى لا يكلف إلا دون الطاقة فقال: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } أي لا يأمر ولا ينهى أحداً إلا ما هو لـه مستطيع وقيل إن معنى قولـه إلا وسعها إلا يسرها دون عسرها ولم يكلفها طاقتها ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود منها عن سفيان بن عيينة وهذا قول حسن وفي هذا دلالة على بطلان قول المجبرة في تجويز تكليف العبد ما لا يطيقه لأن الوسع هو ما يتسع لـه قدرة الإنسان وهو فوق المجهود واستفراغ القدرة وقال بعضهم إن معناه إلا ما يسعها ويحل لـها وهذا خطأ لأن من قال لعبده لا آمرك إلا بما أطلق لك أن تفعلـه لكان ذلك غياً منه وخطأ لأن نفس أمره إطلاق فكأنه قال لا أطلق لك ولا آمرك إلا بما آمرك وقولـه { لـها ما كسبت } معناه لـها ثواب ما كسبت من الطاعات { وعليها } جزاء { ما اكتسبت } من السيئات ويجوز أيضاً أن يسمى الثواب والعقاب كسباً من حيث حصلا بكسبه { ربنا لا تؤاخذنا } قيل تقديره قولوا ربنا على جهة التعليم للدعاء عن الحسن وقيل تقديره يقولون ربنا على جهة الحكاية والثناء { إن نسينا أو أخطأنا } قيل فيه وجوه أحدها: أن المراد بنسينا تركنا كقولـه تعالى { { نسوا الله فنسيهم } [التوبة: 67] أي تركوا طاعته فتركهم من ثوابه وقولـه { { وتنسون أنفسكم } [البقرة: 44] ومنه قول الشاعر:

وَلَمْ أكُ عِنْدَ الجُودِ لِلْجُودِ قالِياً وَلا كُنْتُ يَوْمَ الرَّوْعِ لِلْطَعْنِ ناسِيا

أي تاركاً والمراد بأخطانا أي أذنبنا لأن المعاصي توصف بالخطأ من حيث إنها ضد الصواب وإن كان فاعلـها متعمداً فكأنه تعالى أمرهم أن يستغفروا مما تركوه من الوجبات ومما فعلوه من المقبحات والثاني: أن معنى قولـه إن نسينا أن تعرّضنا لأسباب يقع عندها النسيان عن الأمر والغفلة عن الواجب أو أخطأنا أي تعرضنا لأسباب يقع عندها الخطأ ويحسن الدعاء بذلك كما يحسن الاعتذار منه والثالث: أن معناه لا تؤاخذنا إن نسينا أي إن لم نفعل فعلاً يجب فعلـه على سبيل السهو والغفلة أو أخطأنا أي فعلنا فعلاً يجب تركه من غير قصد ويحسن هذا في الدعاء على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى وإظهار الفقر إلى مسألته والاستعانة به وإن كان مأموناً منه المؤاخذة بمثلـه ويجري ذلك مجرى قولـه فيما بعد { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } على أحد الأجوبة وقولـه رب أحدكم بالحق وقد تقدم ذكر أمثالـه والرابع: ما روي عن ابن عباس وعطاء أن معناه لا تعاقبنا إن عصينا جاهلين أو متعمدين وقولـه { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } قيل فيه وجهان أحدهما: أن معناه لا تحمل علينا عملاً نعجز عن القيام به ولا تعذبنا بتركه ونقضه عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع والسدي والثاني: أن معناه لا تحمل علينا ثقلاً عن الربيع ومالك وعطاء يعني لا تشدد الأمر علينا.
{ كما حملته على الذين من قبلنا } أي الأمم الماضية والقرون الخالية لأنهم كانوا إذا ارتكبوا خطيئة عليهم عقوبتها وحرم عليهم بسببها ما أحل لـهم من الطعام كما قال تعالى
{ { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لـهم } [النساء: 160] وأخذ عليهم من العهود والمواثيق وكلفوا من أنواع التكاليف ما لم يكلف هذه الأمة تخفيفاً عنها { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قيل فيه وجوه أحدها: أن معناه ما يثقل علينا تحملـه من أنواع التكاليف والامتحان مثل قتل النفس عند التوبة وقد يقول الرجل لأمر يصعب عليه إني لا أطيقه والثاني: بمعناه ما لا طاقة لنا به من العذاب عاجلاً وآجلاً والثالث: أنه على سبيل التعبد وإن كان تعالى لا يكلف ولا يحمل أحداً ما لا يطيقه كما ذكرنا قبل { واعف عنا } ذنوبنا { واغفر لنا } خطايانا أي استرها { وارحمنا } بإنعامك علينا في الدنيا والعفو في الآخرة وإدخال الجنة { أنت مولانا } أي ولينا وأولى بالتصرف فينا وناصرنا.
{ فانصرنا على القوم الكافرين } أي أعنّا عليهم بالقهر لـهم والغلبة بالحجة عليهم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن الله سبحانه قال عند كل فصل من هذا الدعاء فعلت واستجبت" " ولـهذا استحب الإكثار من هذا الدعاء ففي الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" " أي كفتا قيام ليلته وعن عبد الله بن مسعود قال: "لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وأعطي ثلثاً الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته إلا المُقحمات وعن ابن المنكدر رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " في آخر سورة البقرة آيات إنهن قرآن وإنهن دعاء وإنهن يرضين الرحمن" " وفي تفسير الكلبي بإسناده ذكره عن ابن عباس قال بينا رسول الله إذ سمع نقيضاً يعني صوتاً فرفع رأسه فإذا باب من السماء قد فتح فنزل عليه ملك وقال إن الله يبشرك بنورين لم يعطهما نبياً قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لا يقرأهما أحد إلا أعطيته حاجته وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: كان الرجل إذا تعلم سورة البقرة جَدَّ فينا أي عظم.