التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
٣
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى عن أبي بكر بترك كل همزة ساكنة مثل يؤمنون ويأكلون ويؤتون وبئس ونحوها ويتركان كثيراً من المتحركة مثل يؤده ولا يؤاخذكم ويؤيد بنصره, ومذهب أبي جعفر فيه تفصيل يطول ذكره, وأما أبو عمرو فيترك كل همزة ساكنة إلا أن يكون سكونها الهمزة فيها, وروي عنه الهمزة أيضاً في الساكنة, وأما نافع فيترك كل همزة ساكنة ومتحركة إذا كانت فاءً من الفعل نحو يؤمنون ولا يؤاخذكم واختلفت قراءة الكسائي وحمزة ولكل واحد منهم مذهب فيه يطول ذكره فالهمز على الأصل وتركه للتخفيف.
اللغة والإعراب: الذين جمع الذي واللائي واللاتي: جمع التي وتثنيتهما اللذان واللتان في حال الرفع واللذين واللتين في حال الجر والنصب وهي من الأسماء التي لا تتم إلا بصلاتها نحو من وما وأي وصلاتها لا تكون إلا جملاً خبرية يصح فيها الصدق والكذب ولا بد أن يكون فيها ضمير يعود إلى الموصول فإذا استوفت الموصولات صلاتها كانت في تأويل اسم مفرد مثل زيد وعمرو ويحتاج إلى جزء آخر تصير به جملة فقولـه الذين موصول ويؤمنون صلة ويحتمل أن يكون محله نصباً وجراً ورفعاً فالنصب على المدح تقديره أعني الذين يؤمنون وأما الجر فعلى أنه صفة للمتقين وأما الرفع فعلى المدح أيضاً كأنه لما قيل هدى للمتقين قيل من هم قيل هم الذين يؤمنون بالغيب فيكون خبرَ مبتدأ محذوف, ويؤمنون معناه يصدقون والواو في موضع الرفع بكونه ضمير الفاعلين والنون علامة الرفع والأصل في يُفعل يؤفعل ولكن الهمزة حذفت لأنك إذا أنبأت عن نفسك قلت أنا أُفعل فكانت تجتمع همزتان فاستثقلتا فحذفت الهمزة الثانية فقيل أفعل ثم حذفت من الصيغ الآخر نفعل وتفعل ويفعل كما أن باب يعد حذفت منه الواو لوقوعها بين ياء وكسرة إذ الأصل يوعد ثم حذفت في تعد وأعد ونعدي ليجري الباب على سنن واحد قال الأزهري اتفق العلماء على أن الإيمان هو التصديق قال الله تعالى:
{ { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [يوسف: 17] أي ما أنت بمصدق لنا قال أبو زيد وقالوا ما أمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت فالإيمان هو الثقة والتصديق قال الله تعالى { { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا } [الزخرف: 69] أي صدقوا ووثقوا بها وقال الشاعر أنشده ابن الأنباري:

وَمِنْ قَبلُ آمَنَّا وَقْد كانَ قَومُنا يُصلُّونَ للأوْثانِ قَبلُ مُحمَّدا

ومعناه آمنا محمداً أي صدّقناه ويجوز أن يكون آمن من قياس فعلته فافعل تقول أمنته فأمن مثل كببته فاكب, والأمن خلاف الخوف والأمانة خلاف الخيانة والأمون الناقة القوية كأنها يؤمن عثارها وكلالها ويجوز أن يكون آمن بمعنى صار ذا أمن على نفسه بإظهار التصديق نحو أجرب وأعاهَ وأصح وأسلم صار ذا سلم أي خرج عن أن يكون جرباً هذا في أصل اللغة, أما في الشريعة فالإيمان هو التصديق بكل ما يلزم التصديق به من الله تعالى وأنبيائه وملائكته وكتبه والبعث والنشور والجنة والنار وأما قولنا في وصف القديم تعالى المؤمن فإنه يحتمل تأويلين أحدهما أن يكون من آمنت المتعدي إلى مفعول فنقل بالهمزة فتعدى إلى مفعولين فصار من أمن زيد العذاب وآمنته العذاب فمعناه المؤمن عذابه من لا يستحقه من أوليائه ومن هذا وصفه سبحانه بالعدل كقولـه: { قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ } [آل عمران: 18] وهذا الوجه مروي في أخبارنا والآخر أن يكون معناه المصدق أي يصدق الموحدين على توحيدهم إياه يدل عليه قولـه: { { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [آل عمران: 18] لأن الشاهد مصدق لما يشهد به كما أنه مصدق من يشهد له فإذا شهد بالتوحيد فقد صدق الموحدين وأما الغيب فهو غاب عنك ولم تشهده وقولـه بالغيب كأنه إجمال لما فصل في قولـه كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله أي يؤمنون بما كفر به الكفار من وحدانية الله وإنزال كتبه وإرسال رسله فكل هذا غيب فعلي هذا يكون الجار والمجرور في موضع نصب بأنه مفعول به وفيه وجه آخر وهو أن يكون أراد يؤمنون إذا غابوا عنكم ولم يكونوا كالمنافقين ومثله قولـه: { { وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } [يس: 11] فعلى هذا يكون الجار والمجرور في موضع الحال أي يؤمنون غائبين عن مراءة الناس لا يريدون بإيمانهم تصنعاً لأحد ولكن يخلصونه لله ويقيمون الصلاة يؤدونها بحدودها وفرائضها يقال أقام القوم سوقهم إذا لم يعطلوها من البيع والشراء وقال الشاعر:

أَقَامَتْ غَزالَةُ سُوق الضرِّابِ لأهْلِ العِراقِينَ حَوْلاً قَميطا

وقال أبو مسلم يقيمون الصلاة أي يديمون أداء فرائضها يقال للشيء الراتب قايم ويقال فلان يقيم أرزاق الجند والصلاة في اللغة الدعاء قال الأعشى:

وأَقْبَلها الرّيحَ في ظِلِّها وصَلَّى عَلى دَنِّها وارْتُسَمْ

أي دعا لها ومنه الحديث: " "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب وإن كان صائماً فليصل" " أي فليدعُ له بالبركة والخير. وقيل أصله رفع الصلا في الركوع وهو عظم في العجز وقولـه: { ومما رزقناهم ينفقون } ما هذا حرف موصول ورزقناهم صلته وهما جميعاً بمعنى المصدر تقديره ومن رزقنا إياهم ينفقون أو اسم موصول والعائد من الصلة إلى الموصول محذوف والتقدير ومن الذي رزقناهموه ينفقون فيكون ما رزقناهم في موضع جر بمن والجار والمجرور في موضع نصب بأنه مفعول ينفقون. والرزق هو العطاء الجاري وهو نقيض الحرمان والإنفاق إخراج المال يقال أنفق ماله أي أخرجه عن ملكه ونفقت الدابة إذا خرجت روحها والنافقاء جُحر اليربوع لأنه يخرج منها ومنه النفاق لأن المنافق يخرج إلى المؤمن بالإيمان وإلى الكافر بالكفر.
المعنى: لما وصف القرآن بأنه هدى للمتقين بيَّن صفة المتقين فقال الذين يؤمنون بالغيب أي يصدّقون بجميع ما أوجبه الله تعالى أو ندب إليه أو أباحه وقيل يصدقون بالقيامة والجنة والنار, عن الحسن, وقيل بما جاء من عند الله عن ابن عباس, وقيل بما غاب عن العباد علمه عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة, وهذا أولى لعمومه ويدخل فيه ما رواه أصحابنا من زمان غيبة المهدي (ع) ووقت خروجه وقيل الغيب هو القرآن عن زرّ بن حبيش وقال الرماني: الغيب خفاء الشيء عن الحس قرب أو بعد إلا أنه كثرت صفة غايب على البعيد الذي لا يظهر للحس. وقال البلخي: الغيب كل ما أدرك بالدلائل والآيات مما يلزم معرفته. وقالت المعتزلة بأجمعها: الإيمان هو فعل الطاعة ثم اختلفوا فمنهم من اعتبر الفرائض والنوافل ومنهم من اعتبر الفرائض والنوافل ومنهم من اعتبر الفرائض حسب, واعتبروا اجتناب الكبائر كلها وقد روى الخاص والعام عن علي بن موسى الرضا (ع): إن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان وقد روي ذلك على لفظ آخر عنه أيضاً: الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول واتباع الرسول.
وأقول إن أصل الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاءت به رسله وكل عارف بشيء فهو مصدق به يدل عليه هذه الآية فإنه تعالى لما ذكر الإيمان علقه بالغيب ليعلم أنه تصديق للمخبر فيما أخبر به من الغيب على معرفة وثقة ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات البدنية والمالية وعطفهما عليه فقال: { ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } والشيء لا يعطف على نفسه وإنما يعطف على غيره ويدل عليه أيضاً أنه تعالى حيث ذكر الإيمان إضافة إلى القلب فقال: { وقلبه مطمئن بالإيمان } وقال أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"الإيمان سر" وأشار إلى صدره والإسلام علانية وقد يسمى الإقرار إيماناً كما يسمى تصديقاً إلا أنه متى صدر عن شك أو جهل كان إيماناً لفظياً لا حقيقياً وقد تسمى أعمال الجوارح أيضاً إيماناً استعارة وتلويحاً كما تسمى تصديقاً كذلك فيقال فلان تصدق أفعاله مقاله ولا خير في قول لا يصدقه الفعل والفعل ليس بتصديق حقيقي باتفاق أهل اللغة وإنما استعير له هذا الاسم على الوجه الذي ذكرناه فقد آل الأمر مع تسليم صحة الخبر وقبوله إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والتصديق به على نحو ما تقتضيه اللغة ولا يطلق لفظه إلا على ذلك إلا أنه يستعمل في الإقرار باللسان والعمل بالأركان مجازاً واتساعاً وبالله التوفيق.
وقد ذكرنا في قولـه: { ويقيمون الصلاة } وجهين اقتضاهما اللغة وقيل أيضاً إنه مشتق من القيام في الصلاة ولذلك قيل قد قامت الصلاة وإنما ذكر القيام لأنه أول أركان الصلاة وأمدّها وإن كان المراد به هو وغيره والصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة على وجوه مخصوصة وهذا يدل على أن الاسم ينقل من اللغة إلى الشرع وقيل إن هذا ليس بنقل بل هو تخصيص لأنه يطلق على الذكر والدعاء في مواضع مخصوصة وقولـه تعالى: { ومما رزقناهم ينفقون } يريد ومما أعطيناهم وملكناهم يخرجون على وجه الطاعة وحكي عن ابن عباس: أنه الزكاة المفروضة وعن ابن مسعود: أنه نفقة الرجل على أهله لأن الآية نزلت قبل وجوب الزكاة وعن الضحاك: هو التطوع بالنفقة. وروى محمد ابن مسلم عن الصادق (ع) أن معناه ومما علمناهم يبثون والأولى حمل الآية على عمومها وحقيقة الرزق هو ما صح أن ينتفع به المنتفع وليس لأحد منعه منه وهذه الآية تدل على أن الحرام لا يكون رزقاً لأنه تعالى مدحهم بالإنفاق مما رزقهم والمنفق من الحرام لا يستحق المدح على الإنفاق بالإنفاق فلا يكون رزقاً.
النزول: قال بعضهم هذه الآية تناولت مؤمني العرب خاصة بدلالة قولـه فيما بعد { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } الآية فهذا في مؤمني أهل الكتاب إذ لم يكن للعرب كتاب قبل القرآن وهذا غير صحيح لأنه لا يمتنع أن تكون الآية الأولى عامة في جميع المؤمنين وإن كانت الثانية خاصة في قوم منهم ويجوز أن يكون المراد بالآيات قوماً واحداً وصفوا بجميع ذلك بأن جمع بين أوصافهم بواو العطف كقول الشاعر:

إلى الْمَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام وَليْثِ الْكَتِيبَةِ في المُزدْحَمْ