التفاسير

< >
عرض

قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
٣٣
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: روي عن ابن عامر أنبئهم بالهمزة وكسر الهاء والباقون بضم الهاء.
الحجة: من ضمّ الهاء حملها على الأصل أن تكون هاء الضمير مضمومة وإنما تكسر الهاء إِذا وليها كسرة أو ياء نحو بهم وعليهم ومع هذا فقد ضمّه قوم حملاً على الأصل ومن كسر الهاء التي قبلها همزة مخففة فإِن لذلك وجهاً من القياس وهو أنه اتبع كسرة الهاء الكسرة التي قبلها ولم يعتد بالحاجز الساكن كما حكي عنهم هذا المرْءُ ورأيت المَرْءَ ومررت بالمِرْءِ فاتبعوا مع هذا الفصل كما اتبعوا في اللغة الأخرى هذا امرُؤٌ ورأيت امرَءاً ومررت بامرِئٍ وحكى أبو زيد عن بعض العرب أخذت هذا منه ومنهما ومنهِمي فكسر المضمر في الإِدراج والوقف ولم أعرفهِ ولم أضربهِ.
اللغة: الإِبداء والإِظهار والإِعلان بمعنى واحد وضد الإِبداء الكتمان وضد الإِظهار الإبطال وضد الإِعلان الإِسرار ويقال بدا يبدو بدواً من الظهور وبدأَ بالهمزة بمعنى استأنف وقال علي بن عيسى الرماني حد الظهور الحصول على حقيقة يمكن أن تعلم بسهولة والله سبحانه ظاهر بأدلته باطن عن إحساس خلقه وكل استدلال فإِنما هو ليظهر شيء بظهور غيره.
الإعراب: آدم منادى مفرد مبني على الضم ومحله النصب لأن المنادى مدعو والمدعو مفعول.
المعنى: ثم خاطب الله تعالى آدم فقال: { يا آدم أنبئهم } أي أخبر الملائكة { بأسمائهم } يعني بأسماء الذين عرضهم عليهم وهم كناية عن المرادين بقولـه أسماء هؤلاء وقد مضى بيانه { فلما أنبأهم } يعني أخبرهم آدم { بأسمائهم } أي باسم كل شيء ومنافعه ومضاره قال الله تعالى للملائكة "ألم أقل لكم" الألف للتنبيه وإِن كان أصلها الاستفهام كقول القائل:

أما ترى اليوم ما أطيبه

لمن يعلم ذلك وحكى سيبويه أما ترى أي برق ههنا ومن الناس من قال إن هذه الألف معناها التوبيخ ومن لم يُجز على الملائكة المعصية منع من ذلك { إِني أعلم غيب السماوات والأرض } أيْ أعلم ما غاب فيهما عنكم فلم تشاهدوا كما أعلم ما حضركم فشاهدتموه { وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } قيل فيه أقوال: أحدها: أنه أراد أعلم سرّكم وعلانيتكم وذكر ذلك تنبيهاً لهم على ما يحيلهم عليه من الاستدلال لأنّ الأصول الأول التي يستدل بها إِنما تذكر على وجه التنبيه ليستخرج بها غيرها فيستدل بعلمه الغيب على أنه خلق عباده على ما خلقهم عليه للاستصلاح في التكليف وما توجبه الحكمة وثانيها: أنه أراد أعلم { ما تبدون } من قولكم أتجعل فيها من يفسد فيها { وما كنتم تكتمون } من إِضمار إِبليس المعصية والمخالفة قال علي بن عيسى وهذا ليس بالوجه لأن الخطاب للملائكة وليس إِبليس منهم ولأنه علم فلا يخص إِلا بدليل وجوابه أن إِبليس لما دخل معهم في الأمر بالسجود جاز أن يذكر في جملتهم وقد رويت روايات تؤيد هذا القول واختاره الطبري وثالثها: أن الله تعالى لما خلق آدم مرت به الملائكة قبل أن ينفخ فيه الروح ولم تكن رأت مثله فقالوا لن يخلق الله خلقاً إِلا كنا أكرم منه وأفضل عنده فهذا ما أخفوه وكتموه وأما ما أبدوه فقولـهم { أتجعل فيها من يفسد فيها } روي ذلك عن الحسن والأول أقوى لأنه أعم ومما يسأل في هذه الآية أن يقال ما وجه ذكره تعالى لهم الأسرار من علم الغيب والجواب أنه على معنى الجواب فيما سألوا عنه من خلق من يفسد ويسفك الدماء على وجه التعريض دون التصريح لأنه لو صرح بذلك لقال خلقت من يفسد ويسفك الدماء لما أعلم في ذلك من المصلحة لعبادي فيما كلفتهم إِياه فدلّ سبحانه الإِحالة في الجواب على العلم بباطن الأمور وظاهرها أنه خلقهم لأجل علمه بالمصلحة في ذلك ودلّهم بذلك على أن عليهم الرضا بأمر الله والتسليم لقضاء الله لأنه يعلم من الغيب ما لا يعلمونه ويعلم من مصالحهم في دينهم ودنياهم ما لا يطلعون عليه.
فإن قيل فأيّ شيء في تعليم الله تعالى آدم الأسماء كلها مما يدل على علمه الغيب؟ فالجواب قيل إنه تعالى علمه الأسماء كلها بما فيها من المعاني التي تدل عليها على جهة فتق لسانه بذلك وإلهامه إِياها فهي معجزة أقامها الله تعالى للملائكة تدل على نبوته وجلالة قدره وارتفاع شأنه بما اختصه الله به من العلم الذي لا يوصل إليه إِلا بتعليم الله عز وجل ودلهم على ذلك بأن قررهم أولاً فأقروا بأن لا علم لهم به ثم أظهر لهم أن آدم يعلمه بتعليم الله فبان بذلك الإِعجاز بالاطلاع على ما لا سبيل إِلى علمه إِلا من علام الغيوب وفيه من المعجزة أنه فتق لسانه على خلاف مجرى العادة وأنه علّمه من لطائف الحكمة ما لا تعلمه الملائكة مع كثرة علومها وأنها أعرف الخلق بربها فعرفوا ما دلّهم على علم الغيب بالمعجزة مؤكداً لما يعلمونه من ذلك بالأدلة العقلية ولذلك نبّههم فقال { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض } أي قد دللتكم على ذلك قبل وهذه دلالة بعد وقد افتتح الله تعالى الدلالة على الإِعجاز بالكلام في آدم ثم ختم به في محمد صلى الله عليه وسلم.
قال السيد الأجل المرتضى قدس الله روحه: وفي هذه الآية سؤال لم أجد أحداً من مفسري القرآن تعرض له وذلك أن يقال من أين علمت الملائكة صحة قول آدم ومطابقة الأسماء المسميات وهي لم تكن عالمة بذلك من قبل والكلام يقتضي أنهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علموا صحتها ولولا ذلك لم يكن لقولـه تعالى { ألم أقل لكم إِني أعلم غيب السماوات والأرض } معنى ولا كانوا أيضاً مستفيدين نبوته وتميزه واختصاصه بما ليس لهم لأن كل ذلك إِنما يتم مع العلم والجواب أنه غير ممتنع أن يكون الله تعالى جعل لهم العلم الضروري بصحة الأسماء ومطابقتها للمسميات إما عن طريق أو ابتداء بلا طريق فعلموا بذلك تمييزه واختصاصه وليس في علمهم بصحة ما أخبر به ما يقتضي العلم بنبوته ضرورة بل بعده درجات ومراتب لا بد من الاستدلال عليها حتى يحصل العلم بنبوته ضرورة.
ووجه آخر وهو أنه لا يمتنع أن يكون للملائكة لغات مختلفة وكل قبيل منهم يعرف أسماء الأجناس في لغته دون لغة غيره إِلا أنه يكون إِحاطة عالم واحد بأسماء الأجناس في جميع لغاتهم خارقة للعادة فلما أراد الله تعالى التنبيه على نبوة آدم علّمه جميع تلك الأسماء فلما أخبرهم بها علم كل فريق مطابقة ما أخبر به من الأسماء للغته وعلم مطابقة ذلك لباقي اللغات بخبر كل قبيل وعلى هذا الجواب فيكون معنى أنبئوني بأسماء هؤلاء ليخبرني كل قبيل منكم بجميع الأسماء وهذان الجوابان مبنيان على أنه لم يتقدم لهم العلم بنبوة آدم وأن إخباره بالأسماء كان مفتتح معجزاته لأنه لو كان نبياً قبل ذلك وكانوا قد علموا نبوته بمعجزات تقدم ظهورها على يده لم يحتج إلى هذين الجوابين لأنهم يعلمون مطابقة الأسماء للمسميات بعد أن لم يعلموا بقولـه الذي علموا أنه حق وصدق.