التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
٨٤
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: السفك الصب سفكت الدم أسفكه سفكاً وواحد الدماء دم وأصله دَمَيٌ في قول أكثر النحويين ودليل من قال إن أصله دَمَي قول الشاعر :

فَلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذُبِحْنَا جَرَى الدَّمَيَانِ بالخَبَرِ اليقيْنِ

وقال قوم أصله دَمْي إلا أنه لما حذف ورُدَّ إليه ما حذف منه حركت الميم لتدل الحركة على أنه استعمل محذوفاً, والنفس مأخوذة من النفاسة وهي الجلالة فنفس الإنسان ما فيه, والدار هي المنزل الذي فيه أبنية المقام بخلاف منزل الارتحال وقال الخليل كل موضع حَلّه قوم فهو دار لهم وإن لم يكن فيه أبنية, والإقرار الاعتراف والشهادة أخذ من المشاهدة وهو الإخبار عن الشيء بما يقوم مقام المشاهدة في المعرفة.
الإعراب: تقدير الإعراب في هذه الآية مثل الذي قلناه في الآية الأولى على السواء. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الإخبار عن اليهود بنقض المواثيق والعهود بقولـه { وإذ أخذنا ميثاقكم } أي ميثاق أسلافكم الذين كانوا في زمن موسى والأنبياء الماضين صلوات الله على نبينا وعليهم أجمعين وإنما أضاف الميثاق إليهم لما كانوا أخلافاً لهم على ما سبق الكلام فيه وقولـه: { لا تسفكون دماءكم } معناه لا يقتل بعضكم بعضاً لأنّ في قتلِ الرجل قَتْلَ نفسِه إِذا كانت ملتهما واحدة ودينهما واحد أو أهل الدين الواحد بمنزلة الرجل الواحد في ولاية بعضهم بعضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إنما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد بالحُمّى والسَهَر" هذا قول قتادة وأبي العالية.
وقيل معناه لا يقتل الرجل منكم غيره فيقام به قصاصاً فيكون بذلك قاتلاً لنفسه لأنه كالسبب فيه وقولـه { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } معناه لا يخرج بعضكم بعضاً من دياركم بأن تغلبوا على الدار وقيل معناه لا تفعلوا ما تستحقون به الإخراج من دياركم كما فعله بنو النضير وقولـه { ثم أقررتم وأنتم تشهدون } أي أقررتم بذلك وأنتم شاهدون على من تقدمكم بأخذنا منهم الميثاق وبما بذلوه من أنفسهم من القبول والالتزام وقيل معنى إقرارهم هو الرضاء به والصبر عليه كما قال الشاعر:

أَلَسْتَ كْلَيْبِاً إِذَا سِيمَ خُطَّةً أقَرَّ كَإِقْرَارِ الحَلِيلَةِ لِلْبَعْلِ

واختلف في المخاطب بقولـه { وأنتم تشهدون } فقيل اليهود الذين بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام هجرته إليهم وَبَّخهم الله تعالى على تضييعهم أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يُقُرون بحكمها وقال لهم: ثم أقررتم يعني أقرَّوا لكم وسلفكم وأنتم تشهدون على إقرارهم بأخذي الميثاق عليهم بأن لا تسفكوا دماءكم ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم وتُصدِّقون بذلك عن ابن عباس, وقيل إنه خبر من الله عز وجل عن أوائلهم ولكنه أخرج الخبر بذلك محرج المخاطبة لهم على النحو الذي تقدم في الآيات وأنتم تشهدون أي وأنتم شهود عن أبي العالية. ويحتمل قولـه وأنتم تشهدون أمرين: أحدهما: أن معناه وأنتم تشهدون على أنفسكم بالإقرار والثاني: أن معناه وأنتم تحضرون سفك دمائكم وإخراج أنفسكم من دياركم وقال بعض المفسرين نزلت الآية في بني قريظه والنضير وقيل نزلت في أسلاف اليهود.