التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٨٩
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

الإعراب: مصدق رفع لأنه صفة لكتاب ولو نصب على الحال لكان جائزاً لكنه لم يقرأ به في المشهور وقيل ضم على الغاية وقد ذكرنا الوجه فيه فيما تقدم من قولـه قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأما جواب لما في قولـه ولما جاءهم كتاب من عند الله فعند الزجاج والأخفش محذوف لأن معناه معروف يدل عليه قولـه: { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } كما حذف جواب لو من نحو قولـه: { { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلّم به الموتى } [الرعد: 31] وتقديره ولو أن قرآناً سوى هذا القرآن سيرت به الجبال لسيرت بهذا القرآن وقيل إن قولـه كفروا جواب لقولـه ولما جاءكم كتاب من عند الله ولقولـه فلما جاءهم ما عرفوا وإنما كرّر لمّا لطول الكلام عن المبرد.
النزول: قال ابن عباس كانت اليهود يستفتحون أي يستنصرون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب ولم يكن من بني إسرائيل كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور: يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك وتصفونه وتذكرون أنه مبعوث فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى العياشي بإِسناده رفعه إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال: كانت اليهود تجد في كتبها أن مهاجر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين عير وأُحُد فخرجوا يطلبون الموضع فمرّوا بجبل يقال له حداد فقالوا حداد وأحد سواء فتفرقوا عنده فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم بفدك وبعضهم بخيبر فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم فمرّ أعرابي من قيس فتكاروا منه وقال لهم أمرُّ بكم ما بين عير وأُحُد فقالوا له إِذا مررت بهما فآذِنا بهما فلما توسط بهم أرض المدينة قال ذلك عير وهذا أُحُد فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له قد أصبنا بُغْيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر إنا قد أصبنا الموضع فهلّموا إلينا فكتبوا إليهم إنا قد استقرت بنا الدار واتخذنا بها الأموال وما أقربنا منكم, فإِذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم واتخذوا بأرض المدينة أموالاً فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم أَمَّنهم فنزلوا عليه فقال لهم: إني قد استطبتُ بلادكم ولا أراني إلا مقيماً فيكم فقالوا له ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك فقال لهم فإِني مخلف فيكم من أُسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره. فخلف حين تراهم الأوس والخزرج فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود فكانت اليهود تقول لهم أما لو بعث محمد لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود وهو قولـه: { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } إلى آخر الآية.
المعنى: { ولما جاءهم } أي جاء اليهود من بني إسرائيل الذين وصفهم الله { كتاب من عند الله } يعني به القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم { مصدق لما معهم } أي للذي معهم من الكتب التي أنزلها الله تعالى قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما وفيه وجهان: أحدهما: أن معناه أنه مصدّق لما تقدم به الأَخبار في التوراة والإنجيل فهو مصدّق لذلك من حيث كان مخبره على ما تقدم الخبر به والآخر: أنه مصدق لهما بأنهما من عند الله تعالى وأنهما حق.
{ وكانوا } يعني اليهود { من قبل } أي من قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن { يستفتحون } فيه وجوه أحدها: أن معناه يستنصرون أي يقولون في الحروب اللهم افتح علينا وانصرنا بحق النبي الأمي اللهم انصرنا بحق النبي المبعوث إلينا فهم يسألون عن الفتح الذي هو النصر وثانيها: أنهم كانوا يقولون لمن ينابذهم هذا نبي قد أطلّ زمانه ينصرنا عليكم وثالثها: أن معنى يستفتحون يستعملون من علمائهم صفة نبي يبعث من العرب فكانوا يصفونه لهم فلما بعث أنكروه ورابعها: أن معنى يستفتحون يستحكمون ربهم على كفار العرب كما قال:

أَلاَ أَبْلَغْ بَنِي عُصْمٍ رسُولاً فَإِنِّي عَن فُتَاحتِكُمْ غَنِيُّ

أي عن محاكمتكم به وقولـه: { على الذين كفروا } أي مشركي العرب { فلما جاءهم ما عرفوا } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أي عرفوا صفته ومبعثه { كفروا } حسداً وبغياً وطلباً للرياسة { فلعنة الله } أي غضبه وعقابه { على الكافرين } وقد فَسَّرنا معنى اللعنة والكفر فيما مضى.