التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَٱبْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ
٩١
إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ
٩٢
وَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ
٩٣
فَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ
٩٤
وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ
٩٥
-الأنبياء

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وحِرْم بكسر الحاء بغير ألف والباقون وحرام وهو قراءة الصادق (ع) وفي الشواذ قراءة الحسن وابن أبي إسحاق أمة واحدة بالرفع، وقرأ ابن عباس وقتادة وحَرِم وفي رواية أخرى عن ابن عباس وحَرَم وهي قراءة عكرمة وأبي العالية.
الحجة: قال أبو علي: حِرْم وحرام لغتان وكذلك حل وحلال وكل واحد من حرم وحرام إن شئت رفعته بالابتداء لاختصاصه بما جاء بعده من الكلام وخبره محذوف وتقديره وحرام على قرية أهلكناها بأنهم لا يرجعون مقضي أو ثابت أو محكوم عليه وإن شئت جعلته خبر مبتدأ محذوف وجعلت لا زائدة والمعنى حرام على قرية أهلكناها رجوعهم كما قال فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون وإن شئت جعلته خبر مبتدأ وأضمرت مبتدأ كما ذكرت ويكون المعنى حرام على قرية أهلكناها بالاستئصال رجوعهم لأنهم لا يرجعون وتكون لا غير زائدة والمعنى حرام عليهم أنهم ممنوعون من ذلك. وقال الزجاج: تقديره وحرام على قرية أهلكناها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون أبداً كما قال سبحانه
{ { ختم الله على قلوبهم } [البقرة: 7] الآية فعلى هذا يكون حرام خبر مبتدأ محذوف وهو قوله أن يتقبل منهم عمل وأنهم لا يرجعون في موضع نصب لأنه مفعول له فأما من قرأ حرِم على قرية فإنه من حرم فهو حرم أي قمر ماله قال زهير:

وَإِن أَتـاهُ خَلِيـــلٌ يَـوْمَ مَسْغَبَةٍ يَقُولُ لا غائِبٌ مالِي وَلا حَرِمٌ

وأما حَرَم فمعناه ظاهر ومن قرأ أمة بالرفع جعله بدلاً من أمتكم ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر وأمة منصوبة على الحال والعامل فيها معنى الإشارة وذو الحال الأمة الأولى وفي الحقيقة الحال الأولى قوله { واحدة } التي هي صفة الأمة كقوله تعالى { { قرآناً عربياً } [يوسف: 2] والتقدير { إن هذه أمتكم أمة واحدة } أي مجتمعة غير متفرقة.
المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدّم بقصة عيسى (ع) فقال { والتي أحصنت فرجها } يعني مريم ابنة عمران أي واذكر مريم التي حفظت فرجها وحصنته وعفت وامتنعت من الفساد { فنفخنا فيها من روحنا } أي أجرينا فيها روح المسيح كما يجري الهواء بالنفخ فأضاف الروح إلى نفسه على وجه الملك تشريفاً له في الاختصاص بالذكر وقيل إن معناه أمرنا جبرائيل فنفخ في جيب درعها فخلقنا المسيح في رحمها { وجعلناها وابنها آية للعالمين } إنما قال آية ولم يقل آيتين لأنه في موضع دلالة فلا يحتاج إلى تثنية والآية فيهما أنها جاءت به من غير فحل فتكلم في المهد بما يوجب براءة ساحتها من العيب.
{ إن هذه أمتكم أمة واحدة } أي هذا دينكم دين واحد عن ابن عباس ومجاهد والحسن وأصل الأمة الجماعة التي على مقصد واحد فجعلت الشريعة أمة واحدة لاجتماعهم بها على مقصد واحد. وقيل: معناه جماعة واحدة في أنها مخلوقة مملوكة لله تعالى أي فلا تكونوا إلا على دين واحد. وقيل: معناه هؤلاء الذين تقدّم ذكرهم من الأنبياء فريقكم الذي يلزمكم الاقتداء بهم في حال اجتماعهم على الحق كما يقال هؤلاء أمتنا أي فريقنا وموافقونا على مذهبنا { وأنا ربكم } الذي خلقكم { فاعبدون } ولا تشركوا بي شيئاً.
ثم ذكر اليهود والنصارى بالاختلاف فقال { وتقطَّعوا أمرهم بينهم } أي فرَّقوا دينهم فيما بينهم يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض عن الكلبي وابن زيد والتقطع هذا بمنزلة التقطيع ثم قال مهدّداً { كل إلينا راجعون } أي كل ممن اجتمع وافترق راجع إلى حكمنا في الوقت الذي لا يقدر على الحكم سوانا فنجازيهم بأعمالهم.
{ فمن يعمل من الصالحات } التقدير فمن يعمل من الصالحات شيئاً مثل صلة الرحم ومعونة الضعيف ونصر المظلوم والتنفيس عن المكروب وغير ذلك من أنواع الطاعات { وهو مؤمن } شرط الإيمان لأن هذه الأشياء لو فعلها الكافر لم ينتفع بها عند الله تعالى { فلا كفران لسعيه } أي فلا جحود لإحسانه في عمله بل يشكر ويثاب عليه { وإنا له كاتبون } أي نأمر ملائكتنا أن يكتبوا ذلك ويثبتوه فلا يضيع منه شيء. وقيل: كاتبون أي ضامنون جزاءه نوفر على عاملها مجموعة ومنه الكتيبة لأنه ضم رجال إلى رجال.
{ وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } اختلف في معناه على وجوه (أحدها) أن لا مزيدة والمعنى حرام على قرية مهلكة بالعقوبة أن يرجعوا إلى دار الدنيا عن الجبائي. وقيل: إن معناه واجب عليها إنها إذا أهلكت لا ترجع إلى دنياها عن قتادة وعكرمة والكلبي قال عطاء يريد حتم مني والمراد أن الله تعالى كتب على من أهلك أن لا يرجع إلى الدنيا قضاء منه حتماً وفي ذلك تخويف لكفار مكة بأنهم إن عذّبوا وأهلكوا لم يرجعوا إلى الدنيا كغيرهم من الأمم المهلكة وقد جاء الحرام بمعنى الواجب في شعر الخنساء:

وَإِنَّ حَـراماً لا أَرَى الدَّهْرَ باكِياً على شَجْوَةٍ إلاَّ بَكَيْتُ عَلى صَخْرِ

وثانيها: أن معناه حرام على قرية وجدناها هالكة بالذنوب أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون إلى التوبة وثالثها: أن معناه حرام أن لا يرجعوا بعد الممات بل يرجعون أحياء للمجازاة عن أبي مسلم، وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) أنه قال كل قرية أهلكها الله بعذاب فإنهم لا يرجعون.