التفاسير

< >
عرض

حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ
٣١
ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ
٣٢
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ
٣٣
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ
٣٤
ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَٱلصَّٰبِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمْ وَٱلْمُقِيمِي ٱلصَّلَٰوةِ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ
٣٥
-الحج

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل المدينة فتخطفه بفتح الخاء مشدداً والباقون فتخطفه بسكون الخاء والتخفيف وقرأ منسكاً أهل الكوفة غير عاصم والباقون منسكاً بالفتح وفي الشواذ قراءة الحسن وابن أبي إسحاق والمقيمي الصلاة بالنصب.
الحجة: تَخَطَّف تَتَخَطَّف فحذف تاء التفعل وهما في كلا القراءتين حكاية حال تكون والمعنى في ذلك أنه في مقابلة قوله
{ { فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } [البقرة: 256] فالمشرك بعكس هذا الوصف فلم يستمسك لكفره بما في أمان من الخرور ونجاة من الهوى واختطاف الطير فصار كمن خرَّ من السماء فهوت به الريح فلم يكن له معتصم والأصل في المنسك الفتح لأنه لا يخلو من أن يكون مصدراً أو مكاناً وكلاهما مفتوح العين من باب يفعل إلا أنه قد جاء اسم المكان منه في كلمات على المفعل نحو المطلع والمسجد شاذاً عن القياس ومن قرأ والمقيمي الصلاة فإنه حذف النون تخفيفاً لا لتعاقبها الإضافة وشبَّه ذلك بالذين واللذان في قول الشاعر:

وَإنَّ الَّذِي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماءُهُمْ هُـمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يا أُمَّ خالِدِ

وقول الأخطل:

أَبَنــي كُلَيْــبٍ إنَّ عَمَّـيَّ اللَّذا قَتَلا المُلُوكَ وَفَكَّكَا الأغْلاَلا

ونحوه بيت الكتاب:

وَالْحَافِظُو عَوْرَةَ الْعَشِيرَةِ لا يَأْتِيهِــمُ مِــــنْ وَرائِهِم وَكْفُ

وقال آخر:

قَتَــلْنا ناجِيـــاً بِقَتِيــلِ عمرو وَخَيْرُ الطَّالِبي التَّرَةَ الْغَشُومُ

اللغة: الخطف والإخطاف الاستلاب والسحيق البعيد والسحوق النخلة الطويلة والشعائر علامات مناسك الحج التي تشعر بما جعلت له وأشعرت البدن أعلمتها بما يشعر أنها هدي والمنسك موضع العبادة والنسك العبادة يقال نسك ينسك وينسك أي تعبد. وقيل: هو عبادة الذبح والنسيكة الذبيحة يقال نسكت الشاة ذبحتها والإخبات الخضوع والطمأنينة وأصله من الخبت وهو المكان المطمئن. وقيل: المنخفض.
المعنى: قال سبحانه { حنفاء لله } أي مستقيمي الطريقة على أمر الله مائلين عن سائر الأديان وهي نصب على الحال { غير مشركين به } أي حجاجاً مخلصين وهم مسلمون موحدون لا يشركون في تلبية الحج به أحداً ثم ضرب سبحانه مثلاً لمن أشرك فقال { ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء } أي سقط من السماء { فتخطفه الطير } أي تأخذه بسرعة قال أبن عباس يريد تخطف لحمه { أو تهوي به الريح } أي تسقطه { في مكان سحيق } أي بعيد مفرط في البعد. قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن بعد من أشرك به من الحق كبعد من خرّ من السماء فذهب به الطير أو هوت به الريح في مكان بعيد وقال غيره شبّه حال المشرك بحال الهاوي من السماء في أنه لا يملك لنفسه حيلة فهو هالك لا محالة.
{ ذلك } أي الأمر ذلك الذي ذكرنا { ومن يعظم شعائر الله } أي معالم دين الله والأعلام التي نصبها لطاعته ثم اختلف في ذلك فقيل هي مناسك الحج كلها عن ابن زيد. وقيل: هي البدن وتعظيمها استسمانها واستحسانها عن مجاهد وعن ابن عباس في رواية مقسم، والشعائر جمع شعيرة وهي البدن إذا أشرعت أي أعلمت عليها بأن يشق سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنها هدي فالذي يهدي مندوب إلى طلب الأسمن والأعظم. وقيل: شعائر الله دين الله كله وتعظيمها التزامها عن الحسن.
{ فإنها } أي فإن تعظيمها لدلالة تعظيم عليه ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فقال فإنها { من تقوى القلوب } أضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى تقوي القلوب. وقيل: أراد صدق النية { لكم فيها } أي في الشعائر { منافع } فمن تأول أن الشعائر الهدي قال إن منافعها ركوب ظهورها وشرب ألبانها إذا احتيج إليها وهو المروي عن أبي جعفر (ع) وهو قول عطاء بن أبي رباح ومذهب الشافعي وعلى هذا فقوله إلى أجل مسمى معنا إلى أن ينحر. وقيل: إن المنافع من رسلها ونسلها وركوب ظهورها وأصوافها وأوبارها.
{ إلى أجل مسمى } أي إلى أن يسمى هدياً وبعد ذلك تنقطع المنافع عن مجاهد وقتادة والضحاك والقول الأول أصح لأن قبل أن تسمى هدياً لا تسمى شعائر ومن قال إن الشعائر مناسك الحج. قال المراد: بالمنافع التجارة إلى أجل مسمى إلى أن يعود من مكة ومن قال إن الشعائر دين الله قال لكم فيها منافع أي الأجر والثواب والأجل المسمى القيامة.
{ ثم محلها إلى البيت العتيق } ومن قال إن شعائر الله هي البدن قال معناه أن محل الهدي والبدن الكعبة. وقيل: محله الحرم كله وقال أصحابنا إن كان الهدي للحج فمحله منى وإن كان للعمرة المفردة فمحله مكة قبالة الكعبة بالجزورة ومحلها حيث يحل نحرها ومن قال إن الشعائر مناسك الحج قال معناه ثم محل الحج والعمرة والطواف بالبيت العتيق وإن منتهاها إلى البيت العتيق لأن التحلل يقع بالطواف والطواف يختص بالبيت، ومن قال إن الشعائر هي الدين كله فيحتمل أن يكون معناه أن محل ما اختص منها بالإحرام هو البيت العتيق وذلك الحج والعمرة في القصد له والصلاة في التوجيه إليه ويحتمل أن يكون معناه أن أجرها على رب البيت العتيق.
{ ولكل أمة جعلنا منسكاً } أي لكل جماعة مؤمنة من الذين سلفوا جعلنا عبادة في الذبح عن مجاهد. وقيل: قرباناً أحل لهم ذبحه. وقيل: متعبداً وموضع نسك يقصده الناس. وقيل: منهاجاً وشريعة عن الحسن { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } أي تعبدناهم بذلك ليذكروا اسم الله على ما رزقناهم من بهيمة الأنعام وبهيمة غير الأنعام لا يحل ذبحها ولا التقرب بها وفي هذا دلالة على أن الذبائح غير مختصة بهذه الأمة وأن التسمية على الذبح كانت مشروعة قبلنا.
{ فإلهكم إله واحد } أي معبودكم الذي توجهون إليه العبادة واحد لا شريك له والمعنى فلا تذكروا على ذبائحكم إلا الله وحده { فله أسلموا } أي انقادوا وأطيعوا { وبشر المخبتين } أي المتواضعين المطمئنين إلى الله عن مجاهد. وقيل: الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لا ينتصرون كأنهم أطمأنوا إلى يوم الجزاء.
ثم وصفهم فقال { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } أي إذا خوفوا بالله خافوا { والصابرين على ما أصابهم } من البلايا والمصائب في طاعة الله { والمقيمي الصلاة } في أوقاتها يؤدّونها كما أمرهم الله { ومما رزقناهم ينفقون } أي يتصدَّقون من الواجب وغيره عن ابن عباس.