التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ
١٠١
فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٠٢
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ
١٠٣
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ
١٠٤
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ
١٠٥
قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ
١٠٦
رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ
١٠٧
قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ
١٠٨
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ
١٠٩
فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ
١١٠
-المؤمنون

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم شقاوتنا بالألف الشين والباقون شقوتنا بكسر الشين من غير ألف وقرأ أهل الكوفة غير عاصم سخرياً بضم السين والباقون بكسرها وكذلك في سورة ص.
الحجة: قال أبو علي: الشقوة مصدر كالرقة والفطنة والشقاوة كالسعادة فالقراءة بهما جميعاً سائغة. وقال أبو زيد: اتخذت فلاناً سُخرياً وسِخرياً إذا هزئت منه وقد سخرت منه أسخر سخرياً وسَخْراً قال أبو عبيدة اتخذتموهم سِخرياً تسخرون منهم وسُخريا تَسْخَرونهم ويقال أيضاً أن من الهزء سُخري وسِخري ومن السخرية مضمومة لا غير وحكي عن الحسن وقتادة أن ما كان من العبودة فهو سخري بالضم وما كان من الهزء فبالكسر. قال أبو علي: الأكثر في الهزء كسر السين فيما حكوه ويرى أنه إنما كان أكثر لأن السخر مصدر سخرت وفَعل وفِعل قد يكونان بمعنى نحو المثل والمثل والشبه والشبه في حرف آخر فكذلك السخر والسخر إلا أن المكسورة ألزمت ياء النسب دون المفتوحة كما اتفقوا في القسم على الفتح في لعمر الله ولم يعتد بياء النسب كما لو لم يعتد بها في نحو أحمر وأحمري ودوار ودواري والوجه في الضم على ما حكي عن يونس أن السخري قد يقال بالضم بمعنى الهزء واتفق القراء على الضم في الزخرف لأنه من السخرة وانقياد بعضهم لبعض في الأمور وذلك لا يكون إلا بالضم.
اللغة: اللفح والنفح بمعنى إلا أن اللفح أشد تأثيراً وأعظم من النفح وهو ضرب من السموم للوجه والنفح ضرب الريح الوجه والكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان حتى تبدو الأسنان قال الأعشى:

وَلَــهُ الْمَقْـــدَمُ لا مِثْـــلَ لَهُ ساعَةَ الشِّدْقُ عَنِ النّابِ كلحُ

وخسأت فلاناً أخسأه خساً إذا زجرته ليتباعد فخساً وهو خاسئ ومعنى أخسأ أي تباعد تباعد منحط.
الإِعراب: العامل في إذا نفخ وبينهم ويومئذ خبر لا المحذوف تقديره فلا أنساب تثبت بينهم تلفح وجوههم النار في موضع النصب على الحال والعامل فيه خالدون.
المعنى: ثم بيَّن سبحانه حال الفريقين يوم البعث { فإذا نفخ في الصور } قيل إن المراد به نفخة الصعق عن ابن عباس. وقيل: نفخة البعث عن ابن مسعود والصور جمع صورة أي إذا نفخ فيه الأرواح وأعيدت أحياء عن الحسن. وقيل: إن الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل (ع) بالصوت العظيم الهائل على ما وصفه الله تعالى علامة لوقت إعادة الخلق عن أكثر المفسرين { فلا أنساب بينهم يومئذ } أي لا يتواصلون بالأنساب ولا يتعاطفون بها مع معرفة بعضهم بعضاً عن الحسن والمعنى أنه لا يرحم قريب قريبه لشغله عنه فإن المقصود بالأنساب دفع ضرّ أو جرُّ نفع فإذا ذهب هذا المقصود فكأن الأنساب قد ذهب ومثله يوم يفرُّ المرء من أخيه وأمه وأبيه. وقيل: معناه لا يتفاخرون بالأنساب كما كانوا يفعلونه في الدنيا عن ابن عباس والجبائي ولا بدَّ من تقدير محذوف في الآية على تأويل فلا أنساب بينهم يومئذ يتفاخرون بها أو يتعاطفون بها والمعنى أنه لا يفضل بعضهم بعضاً يومئذ بنسب وإنما يتفاضلون بأعمالهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" "كل حسب ونسب منقطع يوم القيامة إلا حسبي ونسبي" .
{ ولا يتساءلون } أي لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله وخبره كما كانوا يسألون في الدنيا لشغل كل واحد بنفسه عن الجبائي. وقيل: لا يسأل بعضهم بعضاً أن يحمل عنه ذنبه ولا تنافي بين هذه الآية وبين قوله فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون لأن للقيامة أحوالاً ومواطن فمنها حال يشغلهم عظم الأمر فيها عن المسألة ومنها حال يلتفتون فيها فيتساءلون وهذا معنى قول ابن عباس لما سئل عن الآيتين فقال هذه تارات يوم القيامة. وقيل: إنما يتساءلون عند دخول الجنة وإنما يسأل بعض أهل الجنة بعضاً فإنهم لا يفزعون من أهوال القيامة عن السدي.
{ فمن ثقلت موازينه } بالطاعات { فأولئك هم المفلحون } الناجون { ومن خفت موازينه } عن الطاعات { فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون } وقد تقدَّم تفسير الآيتين واختلاف المفسرين في كيفية الميزان والوزن في سورة الأعراف.
{ تلفح وجوههم النار } أي يصيب وجوههم لفح النار ولهبها { وهم فيها كالحون } أي عابسون عن ابن عباس. وقيل: هو أن تتقلص شفاههم وتبدو أسنانهم كالرؤوس المشوية عن الحسن.
{ ألم تكن آياتي تتلى عليكم } أي ويقال لهم أو لم يكن القرآن يقرأ عليكم. وقيل: ألم تكن حججي وبيّناتي وأدلّتي تقرأ عليكم في دار الدنيا { فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا } أي شقاوتنا ومعناهما واحد وهو المضرة اللاحقة في العافية والسعادة المنفعة اللاحقة في العافية ويقال لمن حصل في الدنيا على مضرة فادحة شقي والمعنى استعلت علينا سيئاتنا التي أوجبت لنا الشقاء { وكنا قوماً ضالين } أي ذاهبين عن الحق ولما كانت سيئاتهم التي شقوا بها سبب شقاوتهم سميت شقاوة توسعاً ومن أكبر الشقاوة إن تترك عبادة الله تعالى إلى عبادة غيره وتترك الأدلة ويتبع الهوى.
{ ربنا أخرجنا منها } أي من النار { فإن عدنا } لما تكره من الكفر والتكذيب والمعاصي { فإنا ظالمون } لأنفسنا. قال الحسن: هذا آخر كلام يتكلم به أهل النار ثم بعد ذلك يكون لهم شهيق كشهيق الحمار.
{ قال اخسئوا فيها } أي ابعدوا بعد الكلب في النار وهذه اللفظة زجر للكلاب وإذا قيل ذلك للإِنسان يكون للإهانة المستحقة للعقوبة { ولا تكلمون } وهذه مبالغة للإذلال والإِهانة وإظهار الغضب عليهم لأن من لا يكلم إهانة له فقد بلغ به الغاية في الإذلال. وقيل: معناه ولا تكلمون في رفع العذاب فإني لا أرفعه عنكم وهي على صيغة النهي وليست بنهي لأن الأمر والنهي مرتفعان في الآخرة لارتفاع التكليف.
{ إنه كان فريق من عبادي } أي طائفة من عبادي وهم الأنبياء والمؤمنون { يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين } أي يدعون بهذه الدعوات في الدنيا طلباً لما عندي من الثواب { فاتخذتموهم } أنتم يا معشر الكفار { سخرياً } أي كنتم تهزؤون وتسخرون منهم. وقيل: معناه تستعبدونهم وتصرفونهم في أعمالكم وحوائجكم كرهاً بغير أجر. وقيل: إنهم كانوا إذا آذوا المؤمنين قالوا انظروا إلى هؤلاء رضوا من الدنيا بالعيش الدني طمعاً في الثواب الآخرة وليس وراءهم آخرة ولا ثواب فهو مثل قوله
{ { وإذا مرّوا بهم يتغامزون } [المطففين: 30] { حتى أنسوكم ذكري } أي نسيتم ذكري لاشتغالكم بالسخرية منهم فنسب الإنساء إلى عبادة المؤمنين وإن لم يفعلوه لما كانوا السبب في ذلك { وكنتم منهم تضحكون } ظاهر المعنى.