التفاسير

< >
عرض

فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ بِٱلْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٤١
ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ
٤٢
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ
٤٣
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ
٤٤
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٤٥
إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ
٤٦
فَقَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ
٤٧
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ ٱلْمُهْلَكِينَ
٤٨
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
٤٩
وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ
٥٠
-المؤمنون

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر تترى بالتنوين والباقون بغير تنوين ومن نوّن وقف بالألف لا غير ومن لم ينوَّن ومذهبه الإمالة وقف بالياء وهي ألف ممالة والباقون بالألف وقد ذكرنا اختلافهم في ربوة في سورة البقرة.
الحجة: قال أبو علي: تترى فعلى من المواترة والمواترة أن يتبع الخبر الخبر والكتاب الكتاب فلا يكون بينهما فصل كثير والأقيس أن لا يصرف لأن المصادر قد يلحق أواخرها ألف التأنيث كالدعوى والعدوى والذكرى والشورى ولم نعلم شيئاً من المصادر لحق آخرها الياء للإلحاق فمن قال تترى أمكن أن يريد به فعلى من المواترة فيكون الألف بدلاً من التنوين وإن كان في الخط بالياء كان للإلحاق والإلحاق في غير المصادر ليس بالقليل نحو أرطى ومعزى ولزم أن يحمل على فعل دون فعلى ومن قال تترى وأراد به فعلى فحكمه أن يقف بالألف مفخمة ولا يميلها ومن جعل للإلحاق أو للتأنيث أمال الألف إذا وقف عليها.
المعنى: لمّا قال سبحانه إن هؤلاء الكفار يصبحون نادمين على ما فعلوه عقَّبه بالإخبار عن إهلاكهم فقال { فأخذتهم الصيحة } صاح بهم جبرائيل صيحة واحدة ماتوا عن آخرهم { بالحق } أي باستحقاقهم العقاب بكفرهم { فجعلناهم غثاء } وهو ما جاء به السيل من نبات قد يبس وكل ما يحمله السيل على رأس الماء من قصب وعيدان شجرة فهو غثاء والمعنى فجعلناهم هلكى قد يبسوا كما يبس الغثاء وهمدوا { فبعداً } أي ألزم الله بعداً من الرحمة { للقوم الظالمين } المشركين المكذّبين.
{ ثم أنشأنا من بعدهم } أي من بعد هؤلاء { قروناً آخرين } أي أمماً وأهل أعصار آخرين { ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } هذا وعيد للمشركين معناه ما تموت أمة قبل أجلها المضروب لها ولا تتأخر عنه. وقيل: عنى بالعذاب الموعود لهم على التكذيب أنه لا يتقدَّم على الوقت المضروب لهم لذلك ولا يتأخر عنه والأجل هو الوقت المضروب لحدوث أمر من الأمور والأجل المحتوم لا يتأخر ولا يتقدم والأجل المشروط بحسب الشرط والمراد بالأجل المذكور في الآية الأجل المحتوم.
{ ثم أرسلنا رسلنا تترى } أي متواترة يتبع بعضهم بعضاً عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: متقاربة الأوقات وأصله الاتصال لاتصاله بمكانه من القوس ومنه الوتر وهو الفرد عن الجمع المتصل. قال الأصمعي: يقال واترت الخبر أتبعت بعضه بعضاً وبين الخبرين هنيهة { كلما جاء أمة رسولها كذبوه } ولم يقرُّوا بنبوته { فأتبعنا بعضهم بعضاً } يعني في الإهلاك أي أهلكنا بعضهم في أثر بعض { وجعلناهم أحاديث } أي يتحدث بهم على طريق المثل في الشر وهو جمع أحدوثة ولا يقال هذا في الخير والمعنى إنا صيَّرناهم بحيث لم يبق بين الناس منهم إلا حديثهم { فبعداً لقوم لا يؤمنون } ظاهر المعنى.
{ ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا } أي بدلائلنا الواضحة { وسلطان مبين } أي وبرهان ظاهر بيّن { إلى فرعون وملئه } خصَّ الملأ وهم الأشراف بالذكر لأن الآخرين كانوا أتباعاً لهم { فاستكبروا } أي تجبَّروا وتعظَّموا عن قبول الحق { وكانوا قوماً عالين } أي متكبرين قاهرين قهروا أهل أرضهم واتخذوهم خولاً.
{ فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا } أي أنصدّق لإنسانين خلقهم مثل خلقنا ويسمى الإنسان بشراً لانكشاف بشرته وهي جلدته الظاهرة حتى احتاج إلى لباس يكنُّه وغيره من الحيوان مغطى البشرة بصوف أو ريش أو غيره لطفاً من الله سبحانه بخلقه إذ لم يكن هناك عقل يدبّر أمره مع حاجته إلى ما يكنُّه والإنسان يهتدي إلى ما يستعين به في هذا الباب { وقومهما لنا عابدون } أي مطيعون طاعة العبد لمولاه. قال الحسن: كان بنو إسرائيل يعبدون فرعون وفرعون يعبد الأوثان.
{ فكذبوهما فكانوا من المهلكين } أي فكذَّبوا موسى وهارون فكان عاقبة تكذيبهم أن أهلكهم الله وغرقهم { ولقد آتينا موسى الكتاب } أي التوراة { لعلهم يهتدون } أي لكي يهتدوا إلى طريق الحق والصواب.
{ وجعلنا ابن مريم وأمه آية } وهذا مثل قوله
{ وجعلناها وابنها آية للعالمين } [الأنبياء: 91] أي حجة على قدرتنا على الاختراع وآية عيسى أنه خلق من غير ذكر وآية مريم أنها حملت من غير فحل { وآويناهما إلى ربوة } أي جعلنا مأواهما مكاناً مرتفعاً مستوياً واسعاً يقال أوى إليه يأوي أوياً وأواه غيره يؤويه إيواء أي جعله مأوى له والربوة التي أويا إليها هي الرملة من فلسطين عن أبي هريرة. وقيل: دمشق عن سعيد بن المسيب. وقيل: مصر عن ابن زيد. وقيل: بيت المقدس عن قتادة وكعب. قال كعب: وهي أقرب الأرض إلى السماء. وقيل: هي حيرة الكوفة وسوادها والقرار مسجد الكوفة والمعين الفرات عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. وقيل: { ذات قرار ومعين } معناه أي ذات موضع قرار أي هي أرض مستوية يستقر عليها ساكنوها عن الضحاك وسعيد. وقيل: ذات ثمار عن قتادة ذهب إلى أنه لأجل الثمار يستقرُّ فيها ساكنوها ومعين ماء جار ظاهر العيون مفعول من عِنْتُهُ أعينه ويجوز أن يكون فعيلاً من معن يمعن معانة والماعون الشيء القليل في قول الزجاج قال الراعي:

قَوْمٌ عَلَى الإسْلامِ لَمّا يَمْنَعُوا مــاعُونَهُمْ ويُبَدِّلُوا التَّنْزَيلا

قالوا معناه رفدهم. وقيل: زكاتهم وقال عبيد بن الأبرص:

واهِيَةٌ أوْ مَعِينٌ مُمْعِنٌ أوْ هَضْبَةٌ دُونَها لُهُوبُ

واللهب شق في الجبل، ممعن مارٌ والمعن الشيء السهل الذي ينقاد ولا يعتاص وأمعن بحقه وأذعن أي أقرّ. قال ابن الأعرابي: سألت معانه أي مسأئله ومجاريه.