التفاسير

< >
عرض

قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ
٢
وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ
٣
وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ
٤
وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
٥
إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
٦
فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ
٧
وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
٨
وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٩
أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ
١٠
ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
١١
-المؤمنون

مجمع البيان في تفسير القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم
القراءة: قرأ ابن كثير لأمانتهم على الواحد هنا وفي المعارج والباقون لأماناتهم على الجمع وقرأ على صلاتهم بالأفراد أهل الكوفة غير عاصم والباقون على صلواتهم على الجمع.
الحجة: قال أبو علي: وجه الإفراد في الأمانة أنه مصدر واسم جنس فيقع على الكثرة ووجه الجمع قوله
{ { إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها } [النساء: 58] ومما أفردت فيه الأمانة والمراد به الكثرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من الأمانة أن أؤتمنت المرأة على فرجها يريد تفسير قوله { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } [البقرة: 228] ووجه الإفراد في الصلاة أنها مصدر ووجه الجمع أنها بمنزلة الاسم لاختلاف أنواعها والجمع فيه أقوى لأنه صار اسماً شرعياً لانضمام ما لم يكن في أصل اللغة إليها.
المعنى: { قد أفلح المؤمنون } أي فاز بثواب الله الذين صدَّقوا بالله وبوحدانيته وبرسله. وقيل: معنى أفلح بقي أي قد بقيت أعمالهم الصالحة. وقيل: معنَاه قد سعد. قال لبيد:

ولقد أفلح من كان عقلْ

قال الفراء: يجوز أن يكون قد ههنا لتأكيد الفلاح للمؤمنين ويجوز أن يكون تقريباً للماضي من الحال ألا تراهم يقولون قد قامت الصلاة قبل حال قيامها فيكون المعنى في الآية إن الفلاح قد حصل لهم وأنهم عليه في الحال ثم وصف هؤلاء المؤمنين بأوصاف فقال { الذين هم في صلاتهم خاشعون } أي خاضعون متواضعون متذللون لا يرفعون أبصارهم عن مواضع سجودهم ولا يلتفتون يميناً ولا شمالاً وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته فقال: "أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه" وفي هذا دلالة على أن الخشوع في الصلاة يكون بالقلب وبالجوارح فأما بالقلب فهو أن يفرغ قلبه بجمع الهمة لها والإعراض عما سواها فلا يكون فيه غير العبادة والمعبود وأما بالجوارح فهو غض البصر والإِقبال عليها وترك الالتفات والعبث. قال ابن عباس: خشع فلا يعرف من على يمينه ولا من على يساره وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره إلى السماء في صلاته فلما نزلت الآية طأطأ رأسه ورمى ببصره إلى الأرض.
{ والذين هم عن اللغو معرضون } اللغو في الحقيقة هو كل قول أو فعل لا فائدة فيه يعتدّ بها فذلك قبيح محظور يجب الإِعراض عنه. وقال ابن عباس: اللغو الباطل. وقال الحسن: هو جميع المعاصي. وقال السدي. هو الكذب. وقال مقاتل: هو الشتم فإن كفار مكة كانوا يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فنهوا عن إجابتهم وروي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال هو أن يتقول الرجل عليك بالباطل أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله وفي رواية أخرى أنه الغناء والملاهي.
{ والذين هم للزكاة فاعلون } أي مؤدّون فعبَّر عن التأدية بالفعل لأنه فعل قال أمية بن أبي الصلت:

الْمُطْعِمون الطَّعامَ فِي السَّنَةِ الأَزْمَةِ وَالْفاعِلُونَ للْزَّكَواتِ

قال ابن عباس للصدقة الواجبة مؤدّون { والذين هم لفروجهم حافظون }. قال الليث: الفرج اسم لجميع سؤات الرجال والنساء والمراد بالفروج ههنا فروج الرجال بدلالة قوله { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم }. قال الزجاج: المعنى أنهم يلامون في إطلاق ما حظر عليهم وأمروا بحفظه إلا على أزواجهم ودلَّ على المحذوف ذِكر اللوم في قوله { فإنهم غير ملومين } وملك اليمين في الآية المراد به الإماء لأن الذكور من المماليك لا خلاف في وجوب حفظ الفرج منهم وإنما قيل للجارية ملك يمين ولم يقل في الدار ونحوها ملك يمين لأن ملك الجارية أخص منه إذ يجوز له نقض بنية الدار وليس له نقض بنية الجارية وله عارية الدار وليس له عارية الجارية للوطء حتى توطأَ بالعارية وإنما أطلق سبحانه إباحة وطء الأزواج والإِماء وإن كانت لهن أحوال يحرم وطؤهن فيها كحال الحيض والعدة للجارية من زوج لها وما أشبه ذلك لأن الغرض بالآية بيان جنس من يحل وطؤها دون الأحوال التي لا يحل فيها الوطء.
{ فمن ابتغى وراء ذلك } أي طلب سوى الأزواج والولائد المملوكة { فأُولئك هم العادون } أي الظالمون المتجاوزون إلى ما لا يحل لهم { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } أي حافظون وافون والأمانات ضربان أمانات الله تعالى وأمانات العباد فالأمانات التي بين الله تعالى وبين عباده هي العبادات كالصيام والصلاة والاغتسال وأمانات العباد هي مثل الودائع والعواري والبياعات والشهادات وغيرها وأما العهد فعلى ثلاثة أضرب أوامر الله تعالى ونذور الإِنسان والعقود الجارية بين الناس فيجب على الإِنسان الوفاء بجميع ضروب الأمانات والعهود والقيام بما يتولاه منها.
{ والذين هم على صلواتهم يحافظون } أي يقيمونها في أوقاتها ولا يضيعونها وإنما أعاد ذكر الصلاة تنبيهاً على عظم قدرها وعلو رتبتها عنده تعالى { أُولئك هم الوارثون } معناه أن من كانوا بهذه الصفات واجتمعت فيهم هذه الخلال هم الوارثون يوم القيامة منازل أهل النار من الجنة فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ما منكم من أحد إلا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله" . وقيل: إن معنى الميراث هنا أنهم يصيرون إلى الجنة بعد الأحوال المتقدمة وينتهي أمرهم إليها كالميراث الذي يصير الوارث إليه.
ثم وصف الوارثين فقال { الذين يرثون الفردوس } وهو اسم من أسماء الجنة عن الحسن ولذلك أنَّث فقال { هم فيها خالدون }. وقيل: هو اسم لرياض الجنة عن مجاهد وأبي علي الجبائي. وقيل: هو جنة مخصوصة ثم اختلف في أصله فقيل إنه اسم رومي فعرب. وقيل: هو عربي وزنه فعلول وهو البستان الذي فيه كرم قال جرير:

يا بُعْدَ يَبْرِينَ مِنْ بابِ الْفَرادِيس

وقال الجبائي: معنى الوراثة هنا أن الجنة ونعيمها يؤول إليهم من غير اكتساب كما يؤول المال إلى الوارث من غير اكتساب.