التفاسير

< >
عرض

وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٦٢
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَـٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
٦٣
حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِٱلْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ
٦٤
لاَ تَجْأَرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ
٦٥
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ
٦٦
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ
٦٧
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ
٦٨
أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
٦٩
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ
٧٠
وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ
٧١
-المؤمنون

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ نافع تُهجرون بضم التاء وكسر الجيم والباقون تَهجُرون بفتح التاء وضم الجيم وفي الشواذ قراءة ابن مسعود وابن عباس وعكرمة سَمراً تهجرون وقراءة ابن محيصن سُمَّراً يحيى ولو أتبع بضم الواو.
الحجة: قال أبو علي: من قال تهجرون فالمعنى أنكم كنتم تهجرون آياتي وما يتلى عليكم من كتابي فلا تنقادون له وتكذبون به وتهجرون تأتون بالهجر والهذيان وما لا خير فيه من الكلام. وقال ابن جني: قوله تهجرون معناه تكثرون من الهجر أو هجر النبي صلى الله عليه وسلم أو كتابه أو تكثرون من الإهجار وهو الإفحاش في القول لأن فعَّل للتكثير والسُمَّر جمع سامر والسامر القوم يسمرون أي يتحدثون ليلاً قال ذو الرمة:

وَكَمْ عَرَّسَتْ بَعْدَ السُّرى مِنْ مُعَرَّسِ بِــهِ مِنْ عَزيـفِ الْجِنِّ أصْواتُ سامِرِ

قال قطرب السامر قد يكون واحداً أو جماعة. وقيل: أنه أخذ من السمرة وهي اللون الذي بين السواد والبياض فقيل لحديث الليل السمر لأنهم كانوا يقعدون في ظل القمر يتحدثون. وقيل: إن السمر ظل القمر.
اللغة: الوسع الحال التي يتسع بها السبيل إلى الفعل والوسع دون الطاقة والتكليف تحميل ما فيه المشقة بالأمر والنهي والإعلام مأخوذ من الكلفة في الفعل والله سبحانه يكلّف عباده تعريضاً إياهم للنفع الذي لا يحسن الابتداء بمثله وهو الثواب وأصل الغمرة الستر والتغطية يقال غمرت الشيء إذا سترته وغمرات الموت شدائده وكل شدة غمرة قال:

الغمرات ثم ينجلينا ثم يذهبن فلا يجينا

والجؤار الاستغاثة ورفع الصوت بها والنكوص رجوع القهقرى وهو المشي على الأعقاب إلى خلف وهو أقبح مشية مثل بها أقبح حال وهي الإعراض عن الداعي إلى الحق.
الإعراب: وسعها مفعول ثان لنكلف "بالحق" إن جعلت الحق مصدراً فالباء مزيدة والتقدير ينطق الحق وإن جعلته صفة محذوفاً فالتقدير ينطق بالحكم الحق ومفعول ينطق محذوف، هم لها عاملون جملة في موضع رفع لأنها صفة لأعمال مستكبرين منصوب على الحال من قوله تنكصون وذو الحال وتنكصون خبر كان وسامراً اسم للجمع منصوب لأنه حال.
المعنى: ثم بيَّن سبحانه أنه لا يكلف أحداً إلا دون الطاقة بعد أن أخبر عن حال الكافرين والمؤمنين فقال { ولا نكلف نفساً } أي نكلفها أمراً ولا نأمرها { إلا وسعها } أي دون طاقتها { ولدينا كتاب ينطق بالحق } معناه وعند ملائكتنا المقربين كتاب ينطق بالحق أي يشهد لكم وعليكم بالحق كتبته الملائكة بأمرنا يريد صحائف الأعمال { وهم لا يظلمون } أي يوفون جزاء أعمالهم فلا ينقص من ثوابهم ولا يزاد في عقابهم ولا يؤاخذون بذنب غيرهم.
{ بل قلوبهم في غمرة من هذا } بل ردّ لما سبق وابتداء الكلام والمعنى إن قلوب الكفار في غفلة شديدة من هذا الكتاب المشتمل على الوعد والوعيد وهو القرآن. وقيل: في جهل وحيرة عن الحسن والجبائي { ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون } أي ولهم أعمال ردية سوى هذا الجهل يعملون تلك الأعمال فيستحقون بها وبالكفر العقوبة من الله تعالى. وقيل: ولهم أعمال أي خطايا من دون الحق عن قتادة وأبي العالية ومجاهد. وقيل: ولهم أعمال من دون الأجل الذي أجلت لهم في موتهم لا بدَّ أن يعملوها عن الحسن ومجاهد في رواية أخرى وابن زيد. وقيل: أعمال أصغر من ذلك أي دون الكفر كما يقال هذا دون هذا في القدرهم عاملون إلى أن يفني آجالهم فهم مشتغلون بها.
{ حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } أي يكون هذا دأبهم حتى إذا أخذنا متنعميهم ورؤساءهم بعذاب الآخرة ويقال عذاب الدنيا وهو عذاب السيف في يوم بدر عن ابن عباس. وقيل: هو الجوع حين دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فقال:
"اللهم أشدد وطأتك على مضر وأجعلها سنين كسني يوسف" فابتلاهم الله سبحانه بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب عن الضحاك.
{ إذا هم يجأرون } أي يضجُّون لشدة العذاب ويجزعون. وقيل: يستغيثون عن ابن عباس. وقيل: يصرخون إلى الله بالتوبة فلا يقبل منهم.
{ لا تجأروا اليوم } أي يقال لهم لا تتضرعوا اليوم { إنكم منا لا تنصرون } هذا إيناس لهم من دفع العذاب عنهم.
{ قد كانت آياتي تتلى عليكم } أي تقرأ { فكنتم } أيها الكافرون المعذّبون { على أعقابكم تنكصون } أي تدبرون وتستأخرون وترجعون القهقرى مكذبين { مستكبرين به } أي متكبرين على سائر الناس بالحرم أو بالبلد يعني مكة أن لا يظهر عليكم فيه أحد عن ابن عباس والحسن ومجاهد. وقيل: مستكبرين بمحمد صلى الله عليه وسلم أن تطيعوه وبالقرآن أن تقبلوه فإنها كناية عن غير مذكور في الجميع { سامراً } أي تسمرون بالليل أي تتحدثون في معائب النبي صلى الله عليه وسلم { تهجرون } الحق بالإعراض عنه وتهجرون أي تفحشون في المنطق.
ثم قال سبحانه { أفلم يدبروا القول } أي ألم يتدبروا القرآن فيعرفوا ما فيه من العبر والدلالات على صدق نبيّنا صلى الله عليه وسلم { أم جاءهم ما لم يأت آبائهم الأولين }. قال ابن عباس: يريد أليس قد أرسلنا نوحاً وإبراهيم والنبيين إلى قومهم وكذلك أرسلنا محمداً صلى الله عليه وسلم { أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون }. قال ابن عباس: أليس هو محمداً الذي قد عرفوه صغيراً وكبيراً صادق اللسان أميناً وافياً بالعهد وفي هذا توبيخ لهم بالإعراض عنه بعدما عرفوا صدقه وأمانته مع شرف نسبه قبل الدعوة.
{ أم يقولون به جنة }. قال ابن عباس: يريد وأيُّ جنون ترون به وفي هذا دلالة على جهلهم حيث أقرّوا له بالعقل والصدق أولاً ثم نسبوه إلى الجنون وإنما نسبوه إلى الجنون لينفروا الناس عنه أو لأنه يطمع في إيمانهم فهو يطمع في غير مطمع { بل جاءهم بالحق } المعنى بل جاءهم بالقرآن والدين الحق وليس به جنة { وأكثرهم للحق كارهون } لأنه لم يوافق مرادهم.
{ ولو أتبع الحق أهواءهم } الحق هو الله تعالى عن أبي صالح وابن جريج والسدي والمعنى ولو جعل الله لنفسه شريكاً كما يهوون { لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن } ووجه الفساد ما تقدم ذكره عند قوله
{ { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [الأنبياء: 22]. وقيل: الحق ما يدعو إلى المصالح والمحاسن والأهواء ما تدعو إلى المفاسد والمقابح ولو اتبع الحق داعي الهوى لدعا إله المقابح ولفسد التدبير في السماوات والأرض لأنها مدبرة بالحق لا بالهوى. وقيل: معناه لفسدت أحوال السماوات والأرض لأنها جارية على الحكمة لا على الهوى ومن فيهن أي ولفسد من فيهن وهو إشارة إلى العقلاء من الملائكة والإنس والجن. وقال الكلبي: وما بينهما من خلق فيكون عاماً ووجه فساد العالم بذلك أنه يوجب بطلان الأدلة وامتناع الثقة بالمدلول عليه وأن لا يوثق بوعد ولا وعيد ولا يؤمن انقلاب عدل الحكيم.
{ بل آتيناهم بذكرهم } أي بما فيه شرفهم وفخرهم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منهم والقرآن بلسانهم { فهم عن ذكرهم } أي شرفهم { معرضون } وبالذل راضون. وقيل: الذكر البيان للحق عن ابن عباس.