التفاسير

< >
عرض

لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَٰلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةً طَيِّبَةً كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٦١
-النور

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الحَرَج الضيق من الحَرَجة وهي الشجر الملتف بعضه ببعض لضيق المسالك فيه وجمعها حَرَجات وحِراج قال:

أَيا حَرَجاتَ الحَيِّ حِينَ تَحَمَّلوُا بِــذي سَلَمٍ لا جــادَكُنَّ رَبيعُ

وحرج فلان إذا أَثم وتحرج من كذا إذا تأثم من فعله الأشتات المتفرقون وهو جمع شت.
الإِعراب: جميعاً نصب على الحال وكذلك أشتاتاً وتحية منصوب لأنها مصدر سلموا لأن التحية بمعنى التسليم من عند الله صفة تحية.
المعنى: لمّا تقدَّم ذكر الاستيذان عقَّبه سبحانه بذكر رفع الحرج عن المؤمنين في الانبساط بالأكل والشرب فقال { ليس على الأعمى حرج } الذي كفَّ بصره { ولا على الأعرج } الذي يعرج من رجليه أو أحداهما { حرج ولا على المريض } العليل { حرج } أي إثم واختلف في تأويله على وجوه:
أحدها: أن المعنى ليس عليكم في مؤاكلتهم حرج لأنهم كانوا يتحرَّجون من ذلك ويقولون إن الأعمى لا يبصر فتأكل جيد الطعام دونه والأعرج لا يتمكن من الجلوس والمريض يضعف عن الأكل عن ابن عباس والفراء.
وثانيها: أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا فكان أولئك يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وهم غيب فنفى الله سبحانه الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيت أقاربهم أو من بيت من يدفع إليهم المفتاح إذا أخرج للغزو عن سعيد بن المسيب والزهري.
وثالثها: أن المعنى ليس على الأَعمى والأعرج والمريض ضيق ولا إثم في ترك الجهاد والتخلف عنه ويكون قوله ولا على أنفسكم كلاماً مستأنفاً فأول الكلام في الجهاد وآخره في الأكل عن ابن زيد والحسن والجبائي.
ورابعها: أن العمي والعرج والمرضى كانوا يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء لأن الناس كانوا يتقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعام أعمى ولا أعرج ولا مريض عن سعيد بن جبير والضحاك.
وخامسها: أن الزمنى والمرضى رخصَّ الله سبحانه لهم في الأكل من بيوت من سمَّاهم في الآية وذلك أن قوماً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمونهم ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم وقراباتهم فكان أهل الزمانة يتحرجون من أن يطعموا ذلك الطعام لأنه يطعمهم غير مالكيه عن مجاهد.
{ ولا على أنفسكم } أي وليس عليكم حرج في أنفسكم { أن تأكلوا من بيوتكم } أي بيوت عيالكم وأزواجكم وبيت المرأَة كبيت الزوج. وقيل: معناه من بيوت أولادكم فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء لأن الأولاد كسبهم وأموالهم كأموالهم ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
" "أنت ومالك لأبيك" " وقوله صلى الله عليه وسلم: " "إن أطيب ما يأكل المؤمن كسبه وإن ولده من كسبه" " ولذلك لم يذكر الله بيوت الأبناء حين ذكر بيوت الآباء والأقارب اكتفاء بهذا الذكر بيوت الأقارب بعد الأولاد فقال:
{ أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم } إلى قوله { أو بيوت خالاتكم } وهذه الرخصة في أكل مال القرابات وهم لا يعلمون ذلك كالرخصة لمن دخل حائطاً وهو جائع أن يصيب من ثمره أو مرَّ في سفره بغنم وهو عطشان أن يشرب من رِسْله توسعة منه على عباده ولطفاً لهم ورغبة بهم عن دناءة الأخلاق وضيق العطن. وقال الجبائي: أن الآية منسوخة بقوله
{ { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } [الأحزاب: 53] وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيبة نفس منه " والمروي عن أئمة الهدى صلوات الله عليهم أنهم قالوا: لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكر الله تعالى بغير إذنهم قدر حاجتهم من غير إسراف.
وقوله { أو ما ملكتم مفاتحه } معناه أو بيوت عبيدكم ومماليككم وذلك أن السيد يملك منزل عبده والمفاتح هنا الخزائن لقوله
{ { وعنده مفاتح الغيب } [الأنعام: 59]. وقيل: هي التي يفتح الغيب بها عن ابن عباس قال عنى بذلك وكيل الرجل وقَيِّمه في ضيعته وماشيته فلا بأس عليه أن يأكل من ثِمر حائطه ويشرب من لبن ماشيته، وقبل إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن فلا بأس يطعم الشيء اليسير عن عكرمة. وقيل: هو الرجل يولي طعام غيره يقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه عن السدي { أو صديقكم } رفع الحرج عن الأكل من بيت صديقه بغير إذن كان عالماً بأنه تطيب نفسه بذلك والصديق هو الذي صدقك عن مودّته. وقيل: هو الذي يوافق باطنه باطنك كما وافق ظاهره ظاهرك ولفظ الصديق يقع على الواحد وعلى الجمع قال جرير:

دَعَوْنَ الْهَوى ثَمَّ أَرْتَمَيْنَ قُلُوبَنا بِأَسْــهمِ أعْــداءٍ وَهُـنَّ صَدِيقُ

وقال الحسن وقتادة يجوز دخول الرجل بيت صديقه والتحرم بطعامه من غير استئذان منه في الأكل. وقال أبو عبد الله (ع): لهو والله الرجل يأتي بيت صديقه فيأكل طعامه بغير إذنه وروي أن صديقاً للربيع بن خثيم دخل منزله وأكل طعامه فلما عاد الربيع إلى المنزل أخبرته جاريته بذلك فقال إن كنت صادقة فأنت حرة.
{ ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً } أي مجتمعين أو متفرقين وذكر في تأويله وجوه أحدها: أن حياً من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً وربما كانت معه الإِبل الحُفَّل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فأعلم الله سبحانه أن الرجل منهم إن أكل وحده فلا إثم عليه عن قتادة والضحاك وابن جريج وثانيها: أن معناه لا بأس بأن يأكل الغني مع الفقير في بيته فإن الغني كان يدخل على الفقير من ذوي قرابته أو صداقته فيدعوه إلى طعامه فيتحرج عن ابن عباس وثالثها: أنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف تحرجوا أن يأكلوا إلا معه فأباح الله سبحانه الأكل على الانفراد وعلى الاجتماع عن أبي صالح والأقوال متقاربة والأولى الحمل على العموم.
{ فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا على أنفسكم } أي ليسلم بعضكم على بعض عن الحسن فيكون كقوله أن أقتلوا أنفسكم. وقيل: معناه فسلّموا على أهليكم وعيالكم عن جابر وقتادة والزهري والضحاك. وقيل: معناه فإذا دخلتم بيوتاً يعني المساجد فسلّموا على من فيها عن ابن عباس والأولى حمله على العموم. وقال إبراهيم: إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقال أبو عبد الله (ع): هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم يردّون عليه فهو سلامكم على أنفسكم.
{ تحية من عند الله } أي هذه تحية حياكم الله بها عن ابن عباس. وقيل: معناه علّمها الله وشرعها لكم فإنهم كانوا يقولون عم صباحاً ثم وصف التحية فقال { مباركة طيبة } أي إذا ألزمتموها كثر خيركم وطاب أجركم. وقيل: مؤبدة حسنة جميلة عن ابن عباس. وقيل: إنما قال مباركة لأن معنى السلام عليكم حفظكم الله وسلَّمكم الله من الآفات فهو دعاء بالسلامة من آفات الدنيا والآخرة. وقال طيبة: لما فيها من طيب العيش بالتواصل. وقيل: لما فيها من الأجر الجزيل والثواب العظيم { كذلك } أي كما بيَّن لكم هذه الأحكام والآداب { يبيّن الله لكم الآيات } أي الأدلة على جميع ما يتعبدّكم به { لعلكم تعقلون } أي لتعقلوا معالم دينكم.