التفاسير

< >
عرض

قَالَ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
٣٨
قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن ٱلْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ
٣٩
قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ
٤٠
قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِيۤ أَمْ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ
٤١
فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ
٤٢
وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ
٤٣
قِيلَ لَهَا ٱدْخُلِي ٱلصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٤٤
-النمل

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: في الشواذ قراءة أبي رجاء وعيسى الثقفي عفرية.
الحجة: والمعنى معنى العفريت يقال رجل عفرية نفرية أي خبيث داه قال ذو الرمة:

كَأنَّـهُ كَوْكَـبٌ في إثْرِ عِفْرِيةٍ مُسَوَّمٌ في سَوادِ اللَّيْلِ مُنْقَضِبُ

وأصل العفريت والعفرية من العفر وهو التراب لأنه يصرع قرنه في العفر ومنه قيل للأسد عفرني وللناقة الشديدة عفرناة قال الأعشى:

بِـذاتِ لَوْثٍ عَفَرْناةٍ إذا عَثَرَتْ فَالتَّعْسُ أدْنَى لَها مِنْ أنْ يُقال لَعا

اللغة: التنكير تغيير الشيء من حال إلى حال ينكرها صاحبها إذا رآه والصرح القصر وكل بناء مشرف صرح وصرحة الدار ساحتها وقارعتها وصحنها وأصله من الوضوح يقال صرح بالأمر أي كشفه وأوضحه وصرَّح بالتشديد لازم ومتعدٍّ واللجة معظم الماء والجمع لجج ولج البحر خلاف الساحل ومنه لج بالأمر إذا بالغ بالدخول فيه والممرَّد المملس ومنه الأمرد وشجرة مرداء أي ملساء لا ورق عليها والمارد المتملس عن الحق الخارج منه.
المعنى: فلما رجع إليها الرسول وعرفت أنه نبيّ وأنها لا تقاومه فتجهزَّت للمسير إليه وأخبر جبرائيل سليمان (ع) إنها خرجت من اليمن مقبلة إليه { فقال } سليمان لأماثل جنده وأشراف عسكره: { يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين } واختلف في السبب الذي خصَّ به العرش بالطلب على أقوال أحدها: أنه أعجبته صفته فأراد أن يراه وظهر له آثار إسلامها فأحبَّ أن يملك عرشها قبل أن تسلم فيحرم عليه أخذ مالها عن قتادة وثانيها: أنه أراد أن يختبر بذلك عقلها وفطنتها ويختبر هل تعرفه أو تنكره عن ابن زيد.
وقيل: أراد أن يجعل ذلك دليلاً ومعجزة على صدقه ونبوته لأنها خلفته في دارها وأوثقته ووكلت به ثقات قومها يحرسونه ويحفظونه عن وهب. وقال ابن عباس: كان سليمان رجلاً مهيباً لا يبتدء بالكلام حتى يكون هو الذي يسأل عنه فخرج يوماً فجلس على سريره فرأى رهجاً قريباً منه فقال ما هذا فقالوا بلقيس يا رسول الله وقد نزلت منا بهذا المكان وكان ما بين الكوفة والحيرة على قدر فرسخ فقال أيكم يأتيني بعرشها. وقوله مسلمين فيه وجهان أحدهما: أنه أراد مؤمنين موحدين والآخر: مستسلمين منقادين على ما مرَّ بيانه:
{ قال عفريت من الجن } أي مارد قوي داهية عن ابن عباس: { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } أي من مجلسك الذي تقضي فيه عن قتادة { وإني عليه لقوي أمين } أي وإني على حمله لقويّ وعلى الإتيان به في هذه المدة قادر وعلى ما فيه من الذهب والجواهر أمين وفي هذا دلالة على أن القدرة قبل الفعل لأنه أخبر بأنه قوي عليه قبل أن يجيء به.
وكان سليمان يجلس في مجلسه للقضاء غدوة إلى نصف النهار فقال سليمان أريد أسرعَ من ذلك فعند ذلك { قال الذي عنده علم من الكتاب } وهو آصف بن برخيا وزير سليمان وابن أخته وكان صديقاً يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب عن ابن عباس. وقيل: إن ذلك الاسم الله والذي يليه الرحمن. وقيل: هو يا حي يا قيوم وبالعبرانية أهيا شر اهيا. وقيل: هو يا ذا الجلال والإكرام عن مجاهد. وقيل: إنه قال يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت عن الزهري. وقيل: إن الذي عنده علم من الكتاب كان رجلاً من الإنس يعلم اسم الله الأعظم اسمه بلخيأ عن مجاهد. وقيل: اسمه أسطوم عن قتادة. وقيل: الخضر (ع) عن أبي لهيعة. وقيل: إن الذي عنده علم من الكتاب هو جبرائيل (ع) أذن الله له في طاعة سليمان (ع) بأن يأتيه بالعرش الذي طلبه. وقال الجبائي: هو سليمان قال ذلك للعفريت ليريه نعمة الله عليه وهذا قول بعيد لم يؤثر عن أهل التفسير.
وأما الكتاب المعرف في الآية بالألف واللام فقيل إنه اللوح المحفوظ. وقيل: أراد به جنس كتب الله المنزلة على أنبيائه وليس المراد كتاباً بعينه والجنس قد يعرف بالألف واللام. وقيل: إن المراد به كتاب سليمان إلى بلقيس: { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } اختلف في معناه فقيل يريد قبل أن يصل إليك من كان منك على قدر مدّ البصر عن قتادة. وقيل: معناه قبل أن يبلغ طرفك مداه وغايته ويرجع إليك. قال سعيد بن جبير: قال لسليمان انظر إلى السماء فما طرف حتى جاء به فوضعه بين يديه والمعنى حتى يرتدّ إليك طرفك بعد مدّه إلى السماء. وقيل: ارتداد الطرف إدامة النظر حتى يرتد طرفه خاسئاً عن مجاهد فعلى هذا معناه أن سليمان مدّ بصره إلى أقصاه وهو يديم النظر فقبل أن ينقلب بصره إليه حسيراً يكون قد أتى بالعرش. قال الكلبي: خرَّ آصف ساجداً ودعا باسم الله الأعظم فغار عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسي سليمان.
وذكر العلماء في ذلك وجوهاً أحدها: أن الملائكة حملته بأمر الله تعالى والثاني: أن الريح حملته والثالث: أن الله تعالى خلق فيه حركات متوالية والرابع: أنه انخرق مكانه حيث هو هناك ثم نبع بين يدي سليمان والخامس: أن الأرض طويت له وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) والسادس: أنه أعدمه الله في موضعه وأعاده في مجلس سليمان وهذا لا يصحّ على مذهب أبي هاشم ويصحّ على مذهب أبي علي الجبائي فإنه يجوز فناء بعض الأجسام دون بعض وفي الكلام حذف كثير لأن التقدير. قال سليمان له افعل فسأل الله تعالى في ذلك فحضر العرش فرآه سليمان مستقراً عنده.
{ فلما رآه مستقراً عنده } أي فلما رأى سليمان العرش محمولاً إليه بين يديه في مقدار رجع البصر { قال هذا من فضل ربي } أي من نعمته عليَّ وإحسانه لديَّ لأن تيسير ذلك وتسخيره مع صعوبته وتعذره معجزة له ودلالة على علوّ قدره وجلالته وشرف منزلته عند الله تعالى { ليبلوني أأشكر أم أكفر } أي ليختبرني هل أقوم بشكر هذه النعمة أم أكفر بها: { ومن شكر فإنما يشكر لنفسه } لأن عائدة شكره ومنفعته ترجعان إليه وتخصانه دون غيره وهذا مثل قوله:
{ { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } [الإسراء: 7].
{ ومن كفر فإن ربي غني } عن شكر العباد غير محتاج إليه بل هم المحتاجون إليه لما لهم فيه من الثواب والأجر { كريم } أي متفضل على عباده شاكرهم وكافرهم عاصيهم ومطيعهم لا يمنعه كفرهم وعصيانهم من الإفضال عليهم والإحسان إليهم.
{ قال } سليمان: { نكّروا لها عرشها } أي غيّروا سريرها إلى حال تنكرها إذا رأته وأراد بذلك اعتبار عقلها على ما قيل { ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون } أي أتهتدي إلى معرفة عرشها بفطنتها بعد التغيير أم لا تهتدي إلى ذلك عن سعيد بن جبير وقتادة. وقيل: أتهتدي أي أتستدل بعرشها على قدرة الله وصحة نبوتي وتهتدي بذلك إلى طريق الإيمان والتوحيد أم لا عن الجبائي. قال ابن عباس: فنزع ما كان على العرش من الفصوص والجواهر. وقال مجاهد: غير ما كان أحمر فجعله أخضر وما كان أخضر فجعله أحمر. وقال عكرمة: زيد فيه شيء ونقص منه شيء.
{ فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو } فلم تثبته ولم تنكره ودلَّ ذلك على كمال عقلها حيث لم تقل لا إذ كان يشبه سريرها لأنها وجدت فيه ما تعرفه ولم تقل نعم إذ وجدت فيه ما غيّر وبدّل ولأنها خلّفته في بيتها وحمله في تلك المدة إلى ذلك الموضع غير داخل في قدرة البشر. قال مقاتل: عرفته ولكن شبهوا عليها حين قالوا لها أهكذا عرشك فشبهت حين قالت كأنه هو ولو قيل لها هذا عرشك لقالت نعم. قال عكرمة: كانت حكيمة قالت إن قلت هو هو خشيت أن أكذَّب وإن قلت لا خشيت أن أكذب فقالت كأنه هو شبهته به فقيل لها فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب.
وكانت قد خلفته وراء سبعة أبواب لما خرجت فقالت { وأوتينا العلم } بصحة نبوة سليمان { من قبلها } أي من قبل الآية في العرش { وكنا مسلمين } طائعين لأمر سليمان. وقيل: إنه من كلام سليمان عن مجاهد ومعناه وأوتينا العلم بالله وقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرة وكنا مخلصين لله بالتوحيد. وقيل: معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة قبل مجيئها. وقيل: إنه من كلام قوم سليمان عن الجبائي.
{ وصدَّها ما كانت تعبد من دون الله } أي منعها عبادة الشمس عن الإيمان بالله تعالى بعد رؤية تلك المعجزة عن مجاهد فعلى هذا تكون ما موصولة مرفوعة الموضع بأنها فاعلة صدَّ. وقيل: معناه وصدَّها سليمان عمّا كانت تعبده من دون الله وحال بينها وبينه ومنعها عنه فعلى هذا يكون ما في موضع النصب. وقيل: معناه منعها الإيمان والتوحيد الذي كانت تعبده من دون الله وهو الشمس.
ثم استأنف فقال: { إنها كانت من قوم كافرين } أي من قوم يعبدون الشمس قد نشأت فيما بينهم فلم تعرف إلا عبادة الشمس.
{ قيل لها ادخلي الصرح } والصرح هو الموضع المنبسط المنكشف من غير سقف وذكر أن سليمان لما أقبلت صاحبة سبأ أمر الشياطين ببناء الصرح وهو كهيئة السطح المنبسط من قوارير أجرى تحته الماء وجمع في الماء الحيتان والضفادع ودواب البحر ثم وضع له فيه سرير فجلس عليه. وقيل: إنه قصر من زجاج كأنه الماء بياضاً. وقال أبو عبيدة: كل بناء من زجاج أو صخر أو غير ذلك موثق فهو صرح وإنما أمر سليمان (ع) بالصرح لأنه أراد أن يختبر عقلها وينظر هل تستدل على معرفة الله تعالى بما ترى من هذه الآية العظيمة. وقيل: إن الجن والشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فلا ينفكون من تسخير سليمان وذريته بعده لو تزوجها وذلك أن أمها كانت جنية فأساؤوا الثناء عليها ليزهّدوه فيها وقالوا إن في عقلها شيئاً وإن رجلها كحافر الحمار فلما امتحن ذلك وجدها على خلاف ما قيل. وقيل: إنه ذكر له أن على رجليها شعراً فلما كشفته بان الشعر فساءه ذلك فاستشار الجن في ذلك فعملوا الحمامات وطبخوا له النورة والزرنيخ وكان أول ما صنعت النورة:
{ فلما رأته } أي رأت بلقيس الصرح { حسبته لجة } وهي معظم الماء: { وكشفت عن ساقيها } لدخول الماء. وقيل: إنها لما رأت الصرح قالت ما وجد ابن داود عذاباً يقتلني به إلا الغرق وأنفت أن تجبن فلا تدخل ولم يكن من عادتهم لبس الخفاف فلما كشفت عن ساقيها { قال } لها سليمان { إنه صرح ممرد } أي مملس: { من قوارير } وليس بماء.
ولما رأت سرير سليمان والصرح { قالت ربي إني ظلمت نفسي } بالكفر الذي كنت عليه { وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } فحسن إسلامها. وقيل: إنها لما جلست دعاها سليمان إلى الإسلام وكانت قد رأت الآيات والمعجزات فأجابته وأسلمت. وقيل: إنها لما ظنت أن سليمان يغرقها ثم عرفت حقيقة الأمر قالت ظلمت نفسي إذ توهَّمت على سليمان ما توهَّمت.
واختلف في أمرها بعد ذلك فقيل إنه تزوجها سليمان وأقرَّها على ملكها. وقيل: إنه زوَّجها من ملك يقال له تبع وردَّها إلى أرضها وأمر زوبعة أمير الجن باليمن أن يعمل له ويطيع فصنع له المصانع باليمن.
قال عون بن عبد الله: جاء رجل إلى عبد الله بن عتبة فسأله هل تزوجها سليمان. قال عهدي بها أن قالت وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين يعني أنه لا يعلم ذلك وأن آخر ما سمع من حديثها هذا القول وروى العياشي في تفسيره بالإسناد قال التقى موسى بن محمد ابن علي بن موسى (ع) ويحيى بن أكثم فسأله عن مسائل قال فدخلت على أخي علي بن محمد (ع) بعد أن دار بيني وبينه من المواعظ حتى انتهيت إلى طاعته فقلت له جعلت فداك أن ابن أكثم سألني عن مسائل أفتيه فيها فضحك ثم قال: فهل أفتيته فيها قلت: لا قال: ولم قلت لم أعرفها قال وما هي قلت أخبرني عن سليمان أكان محتاجاً إلى علم آصف بن برخيا ثم ذكر المسائل الأخر قال: اكتب يا أخي بسم الله الرحمن الرحيم سألت عن قول الله تعالى في كتابه قال الذي عنده علم من الكتاب فهو آصف بن برخيا ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرفه آصف لكنَّه (ع) أحبَّ أن تعرف أمته من الإنس والجن أنه الحجة من بعده وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله تعالى ففهمه الله ذلك لئلا يختلف في إمامته ودلالته كما فهم سليمان في حياة داود ليعرف إمامته ونبوته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق.