التفاسير

< >
عرض

لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
١١١
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
١١٢
-آل عمران

مجمع البيان في تفسير القرآن

الإعراب: إلا أذى استثناء متصل وقولـه أذى في تقدير النصب ومعناه لن يضرّوكم إلا ضرراً يسيراً فالأذى وقع موقع المصدر وقيل هو استثناء منقطع لأن الأذى ليس من الضرر كقولـه { لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً } [النبأ: 24-25] قال علي بن عيسى هذا ليس بصحيح لأن الكلام إذا أمكن فيه الاستثناء الحقيقي لم يجز حملـه على المنقطع وإن يقاتلوكم شرط ويولَّوكم جزاء وعلامة الجزم فيهما سقوط النون وقولـه ثم لا ينصرون رفع على الاستئناف ولم يجزم على العطف لأن سبب التولية القتال وليس كذلك منع النصر لأن سببه الكفر ولأن الرفع أشكل برؤوس الآي المتقدمة وهو مع ذلك عطف جملة على جملة والعامل في الباء من قولـه بحبل من الله ضربت على معنى ضربت عليهم الذلة بكل حال إلا بحبل وقال الفراء العامل فيه محذوف وتقديره إلا أن يعتصموا بحبل من الله وأنشد:

رَأَتْني بِحَبْلَيْها فَصَدَّتْ مَخافَةً وَفي الحَبْلِ رَوْعاءُ الفُؤادِ فَرْوقُ

أراد رأتني أقبلت بحبليها فحذف الفاعل في الباء وقال آخر:

قَصِيرُ الخَطْوِ يَحْسَبُ مَنْ رَآني وَلَسْــــتُ مُقَيـَّــداً أَنّي بِقَيْـــدِ

أراد أنني قيدت بقيد قال علي بن عيسى ما ذكره الفراء ضعيف من وجهين أحدهما: أن حذف الموصول عند البصريين لا يجوز لأنه إذا احتاج إلى الصلة تبيّن عنه فالحاجة إلى البيان عنه بذكره أشدّ وإنما يجوز الشيء للاستغناء عنه بدلالة غيره عليه ولو دلّ عليه لحذف مع صلته لأنه معها بمنزلة شيء واحد والوجه الآخر: أن الكلام إذا صحَّ معناه من غير حذف لم يجز تأويلـه على الحذف وقيل في هذا الاستثناء أنه منقطع لأن الذلة لازمة لـهم على كل حال فجرى مجرى قولـه { { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } [النساء: 92] فعامل الإعراب موجود والمعنى على الانقطاع ومثلـه لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً فكل انقطاع فهي إزالة الإبهام الذي يلحق الكلام فقوله { لا يسمعون فيها لغواً } قد يوهم أنهم من حيث لا يسمعون فيها لغواً لا يسمعون كلاماً فقيل لذلك إلا سلاماً وكذلك قولـه { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً } قد يتوهم أنه لا يقتل مؤمن مؤمناً على وجه فقيل لذلك إلا خطأ وكذلك ضربت عليهم الذلة قد يتوهم أنه من غير جواز موادعة فقيل إلا بحبل من الله وقيل إن الاستثناء متصل لأن عزّ المسلمين عزّ لـهم بالذمة وهذا لا يخرجهم من الذلة في أنفسهم.
النزول: قال مقاتل إن رؤوس اليهود مثل كعب وأبي رافع وأبي ياسر وكنانة وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم كعبد الله بن سلام وأصحابه فَأَنَّبُوهم لإسلامهم فنزلت الآية.
المعنى: { لن يضروكم إلا أذى } وعد الله المؤمنين أنهم منصورون وأن أهل الكتاب لا يقدرون عليهم ولا ينالـهم من جهتهم مضرة إلا أذى من جهة القول ثم اختلفوا في هذا القول فقيل هو كذبهم على الله وتحريفهم كتاب الله وقيل هو ما كانوا يُسمعون المؤمنين من الكلام المؤذي { وإن يقاتلوكم } أي وأن يجاوزوا عن الإيذاء باللسان إلى القتال والمحاربة { يولوكم الأدبار } منهزمين { ثم لا ينصرون } أي ثم لا يعانون لكفرهم ففي هذه الآية دلالة على صحة نبوّة نبينا صلى الله عليه وسلم لوقوعُ مُخَبره على وفق خبره لأن يهود المدينة من بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر الذين حاربوا النبي والمسلمين لم يثبتوا لـهم قطّ وانهزموا ولم ينالوا من المسلمين إلا بالسب والطعن.
{ ضربت عليهم الذلة } أي أثبت عليهم الذلة وأنزلت بهم وجعلت محيطة بهم وهو استعارة من ضرب القباب والخيام عن أبي مسلم وقيل معناه ألزموا الذلة فثبتت فيه من قولـهم ضرب فلان الضريبة على عبده أي ألزمها إياه قال الحسن ضربت الذلة على اليهود فلا يكون لـها منعة أبداً وقيل معناه وفرضت عليهم الجزية والـهوان فلا يكونون في موضع إلا بالجزية ولقد أدركهم الإسلام وهم يؤدون الجزية إلى المجوس { أينما ثقفوا } أي وجدوا ويقال أخذوا وظفر بهم { إلا بحبل من الله } أي بعهد من الله { وحبل من الناس } أي وعهد من الناس على وجه الذم وغيرها من وجوه الأمان عن ابن عباس والحسن وقتادة وسمّي العهد حَبلاً لأنه يعقد به الأمان كما يعقد الشيء بالحبل { وباءوا بغضب من الله } أي رجعوا بغضب الله الذي هو عقابه ولعنه وقيل معناه استوجبوا غضباً من الله { وضربت عليهم المسكنة } أي الذلة لأن المسكين لا يكون إلا ذليلاً فسمى الذلة مسكنة عن أبي مسلم وقيل المراد به الفقر لأن اليهود أبداً يتفاقرون وإن كانوا أغنياء وقد ذكرنا تفسير ما بقي من الآية في سورة البقرة.
النظم: وجه اتصال الآية بما قبلـها اتصال البشارة بالظفر لما تقدم أمر المحاربة لأن الأمر قد تقدم بإنكار المنكر وقيل إنه لما تقدم أن أكثرهم الفاسقون اتصل به ما يسكن قلوب المؤمنين من عاديتهم ويؤمن مضرتهم.