التفاسير

< >
عرض

وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ
١٤٦
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيۤ أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
١٤٧
فَآتَاهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلآخِرَةِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٤٨
-آل عمران

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن كثير كائن على وزن اعِنْ وأبو جعفر يلين الـهمزة وهو قراءة الحسن والباقون كَأيِّن على وزن كَعَيِّنْ وقرأ أهل البصرة وابن كثير ونافع قُتل بضم القاف بغير ألف وهي قراءة ابن عباس والباقون قاتل بالألف وهي قراءة ابن مسعود.
الحجة: أصل كائِنْ أي دخلت عليه كاف التشبيه كما دخلت على ذا من كذا وعلى أنّ من كَأَنَّ وكثر استعمال الكلمة فصارتْ ككلمة واحدة فقلبت قلب الكلمة الواحدة فصار كَيَّأنْ فحذفت الياء الثانية كما حذفت في كَيِّنونة فصار كَيْإنْ مثل كَيْعِنْ ثم أبدلت من الياء الألف كما أبدلت من طائي فصار كائِنْ ثم لينت الـهمزة على قراءة أبي جعفر قال الشاعر:

وكائِنْ رَدَدْنَا عَنْكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ يَجِيءُ أمامُ القَوْمِ يُرْدي مُقَنَّعا

وقال آخر:

وَكائِنْ إلَيكُمْ عادَ مِنْ رَأْس فِنْيَةٍ جُنُوداً وَأمْثالُ الْجِبالِ كَتائِبُهُ

وقد حذفت الياء من أي في قول الفرزدق:

تَنورتُ نَسْراً وَالْسِّماكَيْنِ أيْهُما عَلَيَّ مِنَ الْغَيْثِ استَهَلّتْ مَواطِرُهُ

وأما قُتِلَ فيجوز أن يكون مسنداً إلى ضمير نبيّ وإذا أسند هذا إلى الضمير احتمل هذا معه ربيون أمرين أحدهما: أن يكون صفة لنبي فإذا قدرته كان قولُـه ربيّون مرتفعاً بالظرف بلا خلاف لأن الظرف إذا اعتمد على ما قبلـه جاز أن يرفع على مذهب سيبويه أيضاً والآخر: ألا تجعلـه صفة ولكن حالاً من الضمير في قتل والأحسن أن يكون الاسم الذي أسند إليه قتل قولـه ربيون فيكون على هذا التقدير قولـه معه متعلقاً بقتل وعلى القبيلتين الآخرين اللذين هما الصفة والحال متعلقاً في الأصل بمحذوف وكذلك من قرأ قاتل معه ربيون فهو يجوز فيه ما جاز في قراءة من قرأ قتل وحجة من قرأ قتل قولـه { أفإن مات أو قتل } وحجة من قرأ قاتل أن القاتل قد مدح كما يمدح المقتول قال تعالى: { وقاتلوا وقتلوا } ومن جعل قولـه معه ربيون صفة أضمر للمبتدأ الذي هو كَأيِّنْ خبراً وموضع الكاف الجارة هي في كَأيِّن مع المجرور رفع كما أن موضع الكاف في قولـه كذا وكذا رفع ولا معنى للتشبيه فيها كما أنه لا معنى للتشبيه في كذا وكذا.
اللغة: الوهن الضعف وقال وما ضعفوا من حيث أن انكسار الجسم بالخوف وغيره والضعف نقصان القوة والاستكانة أصلـها من الكينة وهي الحالة السيئَة يقال فلان بات بكينة أي بنية سوء والإسراف مجاوزة المقدار والإفراط بمعناه وضدهما التقتير وقيل الإسراف مجاوزة الحق إلى الباطل بزيادة أو نقصان والأول أظهر يقال أسرفت الشيء أي نسيته لأنه جاوزه إلى غيره بالسهو عنه.
المعنى: ثم أكَّد سبحانه ما تقدم بقولـه { وكأين من نبي } أي وكم من رسول { قاتل } أي حارب أو قتل { معه ربيون كثير } ذكرنا تقديره في الحجة وقيل في ربيّون أقوال أحدها: أنهم علماء فقهاء صبر عن ابن عباس والحسن وثانيها: أنهم جموع كثيرة عن مجاهد وقتادة وثالثها: أنهم منسوبون إلى الرب ومعناه المتمسكون بعبادة الله عن الأخفش وقال غيره أنهم منسوبون إلى علم الرب ورابعها: أن الربيين عشرة آلاف عن الزجاج وهو المروي عن أبي جعفر وخامسها: أن الربيين الأتباع والربانيون الولاة عن ابن زيد ومن أسند الضمير الذي في قتل إلى نبي فالمعنى كم من قتل ذلك النبي وكان معه جماعة كثيرة فقاتل أصحابه بعد.
{ فما وهنوا } وما فتروا ومن أسند قتل إلى الربيين دون ضمير نبي فالمعنى ما وهن باقيتهم بعدما قُتل كثير منهم في سبيل الله إلى هذا ذهب الحسن لأنه كان يقول لم يقتل نَبيٌّ قطّ في معركة وإلى الأول ذهب ابن إسحاق وقتادة والربيع والسدي فعلى هذا يكون النبيُّ المقتولَ والذين معه لا يِهِنُون، بَينَّ الله سبحانه أنه لو قُتل النبي كما أرجف بذلك يوم أحد لما أوجب ذلك أن يضعفوا ويهنوا كما لم يهن من كان مع الأنبياء بقتلـهم وهو المروي عن أبي جعفر (ع) وقيل معناه فما وهنوا بقتل نبيهم ولا ضعفوا عن عدوهم ولا استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن دينهم عن ابن عباس وقيل فيما وهنوا أي فما جبنوا عن قتال عدوهم.
{ وما ضعفوا } أي ما فتروا { وما استكانوا } أي وما خضعوا لعدوّهم عن الزجاج { والله يحب الصابرين } في الجهاد قال ابن الأنباري أي فقد كان واجباً عليكم أن تقاتلوا على أمر نبيكم لو قتل كما قاتل أمم الأنبياء بعد قتلـهم ولم يرجعوا عن دينهم { وما كان قولـهم } عند لقاء العدو { إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } والمعنى ما كان قولـهم إلا استغفارهم أي إلا قولـهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا وقولـه إن قالوا اسم كان وقولـهم خبره والضمير يعود إلى النبي ومن معه على أحد القولين وإلى الربيين في قول الآخر وقولـه اغفر لنا ذنوبنا أي أسترها علينا.
بترك عقابنا ومجازاتنا عليها { وإسرافنا في أمرنا } أي تجاوزنا الحدّ وتفريطنا وتقصيرنا، رغَّب الله تعالى أصحاب الرسول في أن يقولوا هذا القول ولا يقولوا قولاً يدلّ على الضعف فيطمع الأعداء فيهم { وثبّت أقدامنا } في جهاد عدوك بتقوية القلوب وفعل الألطاف التي معها تثبت الأقدام فلا تزول للانهزام وقيل معناه ثبتنا على الدين فتثبت به أقدامنا { وانصرنا } على القوم وأعنّا { على القوم الكافرين } بإلقاء الرعب في قلوبهم وإمدادنا بالملائكة ثم بيَّن تعالى ما آتاهم عقيب دعائهم فقال { فآتاهم الله } يعني الذين وصفهم أعطاهم الله { ثواب الدنيا } وهو نصرهم على عدوّهم حتى ظفروا بهم وقهروهم وغلبوهم ونالوا منهم الغنيمة وحسن ثواب الآخرة وهو الجنة والمغفرة ويجوز أن يكون ما آتاهم في الدنيا من الظفر والفتح والنصر وأخذ الغنيمة ثواباً مستحقاً لـهم على طاعاتهم لأن في ذلك التعظيم لـهم والاجلال ولذلك نقول إن المدح على فعل الطاعة والتسمية بالأسماء الشريفة بعض الثواب ويجوز أن يكون أعطاهم الله ذلك تفضلاً منه تعالى أو لما لـهم فيه من اللطف فيكون تسميته بأنه ثواب مجازاً وتوسعاً والثواب هو النفع الخالص المستحق المقارن للتعظيم والتبجيل { والله يحب المحسنين } في أقوالـهم وأفعالـهم والمحسن فاعل الحسن وقيل المحسن الذي يحسن إلى نفسه بطاعة ربه وقيل الذي يحسن إلى غيره.