التفاسير

< >
عرض

إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
٥٩
ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ
٦٠
فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ
٦١
-آل عمران

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: المثل ذكر سائر يدل على أن سبيل الثاني سبيل الأول وتعالوا أصلـه من العلو يقال تعاليت أتعالى أي جئت وأصلـه المجيء إلى ارتفاع إلا أنه كثر في الاستعمال حتى صار بمعنى هلمَّ وقيل في الابتهال قولان أحدهما: أنهُ بمعنى الالتعان وافتعلوا بمعنى تفاعلوا كقولـهم: اشتوروا بمعنى تشاوروا ملهـه الله أي لعنه الله وعليه مهلة الله أي لعنة الله والآخر: أنه بمعنى الدعاء بالـهلاك قال لبيد:

نظر الدهر إليهم فابتهلْ

أي دعا عليهم بالـهلاك فالبهل كاللعن وهو المباعدة عن رحمة الله عقاباً على معصيته ولذلك لا يجوز أن يلعن من ليس بعاص من طفل أو بهيم أو نحوهما.
الإعراب: قولـه خلقه من تراب لا موضع لـه من الإعراب لأنه لا يصلح أن يكون صفة لآدم من حيث هو نكرة ولا يكون حالاً لـه لأنه ماض فهو متصل في المعنى غير متصل في اللفظ بعلامة من علامات الاتصال فيكون الرفع على تقدير فهو يكون والحق رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره ذلك الأخبار في أمر عيسى الحق من ربك فحذف ذلك لدلالة شاهدة الحال عليه كما يقال الـهلال والله أي هذا الـهلال وقيل الحق مبتدأ وخبره قولـه من ربك.
النزول: قيل نزلت الآيات في وفد نجران العاقب والسيد ومن معهما قالوا لرسول الله هل رأيت ولداً من غير ذكر فنزل { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } الآيات فقرأها عليهم عن ابن عباس وقتادة والحسن. فلما دعاهم رسول الله إلى المباهلة استنظروه إلى صبيحة غد من يومهم ذلك فلما رجعوا إلى رجالـهم قال لـهم الأسقف انظروا محمداً في غد فإن غدا بولده وأهلـه فاحذروا مباهلته وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنه على غير شيء فلما كان الغد جاءَ النبي صلى الله عليه وسلم آخذاً بيد علي بن أبي طالب (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) بين يديه يمشيان وفاطمة (ع) تمشي خلفه وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد أقبل بمن معه سأل عنهم فقيل لـه هذا ابن عمه وزوج ابنته وأحبّ الخلق إليه وهذان ابنا بنته من علي (ع) وهذه الجارية بنته فاطمة أعز الناس عليه وأقربهم إلى قلبه وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجثا على ركبتيه قال أبو حارثة الأسقف جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة فكع ولم يقدم على المباهلة فقال السيد ادن يا أبا حارثة للمباهلة فقال لا إني لأرى رجلاً جريئاً على المباهلة وأنا أخاف أن يكون صادقاً ولئن كان صادقاً لم يَحُل والله علينا الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الماء فقال الأسقف: يا أبا القاسم إنا لا نباهلك ولكن نصالحك فصالحنا على ما ينهض به فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألفي حلة من حلل الأواقي قسمة كل حلة أربعون درهماً فما زادا ونقص فعلى حساب ذلك وعلى عارية ثلاثين درعاً وثلاثين رمحاً وثلاثين فرساً أن كان باليمن كيد ورسول الله ضامن حتى يؤديّها وكتب لـهم بذلك كتاباً. وروي أن الأسقف قال لـهم إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزالـه فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة وقال النبي:
"والذي نفسي بيده لو لاعَنُوني لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم الوادي عليهم ناراً ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا كلـهم" قالوا فلما رجع وفد نجران لم يلبث السيد والعاقب إلا يسيراً حتى رجعا إلى النبي وأهدى العاقب لـه حلة وعصا وقدحاً ونعلين وأسلما.
المعنى: ثم رد الله تعالى على النصارى قولـهم في المسيح إنه ابن الله فقال { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } أي منك عيسى فيخلق الله أياه من غير أب كمثل آدم في خلق الله أياه من غير أب ولا أم فليس هو بأبدع ولا أعجب من ذلك فكيف أنكروا هذا وأقرُّوا بذلك ثم بيَّن سبحانه كيف خلقه فقال { خلقه } أي أنشأه { من تراب } وهذا إخبار عن آدم ومعناه خلق عيسى من الريح ولم يخلق قبل أحداً من الريح كما خلق آدم من التراب ولم يخلق قبلـه أحداً من التراب { ثم قال لـه } أي لآدم وقيل لعيسى { كن } أي كن حياً بشراً سوياً { فيكون } أي فكان في الحال على ما أراد وقد مرَّ تفسير هذه الكلمة فيما قبل في سورة البقرة مشروحاً وفي هذه الآية دلالة على صحة النظر والاستدلال لأن الله احتج على النصارى ودل على جواز خلق عيسى من غير أب ولا أم { الحق من ربك } أي هذا هو الحق من ربك أضاف إلى نفسه تأكيداً وتعليلاً أي هو الحق لأنه من ربك { فلا تكن } أيها السامع { من الممترين } وقد مر تفسيره في سورة البقرة.
{ فمن حاجك } معناه فمن خاصمك وجادلك يا محمد { فيه } أي في قصة عيسى { من بعد ما جاءك من العلم } أي من البرهان الواضح على أنه عبدي ورسولي عن قتادة في معناه وقيل فمن حاجك في الحق والـهاء في فيه عائدة إلى قولـه الحق من ربك فقل يا محمد لـهؤلاء النصارى { تعالوا إلى كلمة } أي هلموا إلى حجة أخرى ماضية فاصلة تميز الصادق من الكاذب.
{ ندع أبناءنا وأبناءكم } أجمع المفسرون على أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين قال أبو بكر الرازي هذا يدل على أن الحسن والحسين إبنا رسول الله وأن ولد الابنة ابن في الحقيقة. وقال ابن أبي علان وهو أحد أئمة المعتزلة: هذا يدل على أن الحسن والحسين كانا مكلفين في تلك الحال لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين وقال أصحابنا: إن صغر السن ونقصانها عن حدّ بلوغ الحلم لا ينافي كمال العقل وإنما جعل بلوغ الحلم حدّاً لتعلق الأحكام الشرعية وقد كان سنّاً لا في تلك الحال سناً لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل على أن عندنا يجوز أن يخرق الله العادات للأئمة ويخصّهم بما لا يشركهم فيه غيرهم فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن لجاز ذلك فيهم أبانة لـهم عمن سواهم ودلالة على مكانهم من الله تعالى واختصاصهم ومما يؤيده من الأخبار قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" "ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا" .
" { ونساءنا } اتفقوا على أن المراد به فاطمة (ع) لأنه لم يحضر المباهلة غيرها من النساء وهذا يدلَّ على تفضيل الزهراء على جميع النساء ويعضده ما جاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " "فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها؟" " وقال: " "إن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضائها " . وقد صح عن حذيفة أنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أتاني ملك فبشَّرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة أو نساء أمتي" " وعن الشعبي عن مسروق "عن عائشة قالت: سرَّ النبيُّ إلى فاطمة شيئاً فضحكت فسألتها فقالت قال لي: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة أو نساء المؤمنين" " فضحكت لذلك.
{ ونساؤكم } أي من شئتم من نسائكم { وأنفسنا } يعني علياً خاصة ولا يجوز أن يكون المعَنيّ به النبي صلى الله عليه وسلم لأنه هو الداعي ولا يجوز أن يدعو الإنسان نفسه وإنما يصح أن يدعو غيره وإذا كان قولـه وأنفسنا لا بد أن يكون إشارة إلى غير الرسول وجب أن يكون إشارة إلى علي لأنه لا أحد يدّعي دخول غير أمير المؤمنين عليَّ وزوجته وولديه في المباهلة وهذا يدلّ على غاية الفضل وعلو الدّرجة والبلوغ منه إلى حيث لا يبلغه أحد إذ جعلـه الله نفس الرسول وهذا ما لا يدانيه فيه أحد ولا يقاربه ومما يعضده من الروايات
"ما صحّ عن النبيَّ أنه سأل عن بعض أصحابه فقال لـه قائل فعليّ فقال: ما سألتني عن الناس ولم تسألني عن نفسي وقولـه لبريدة الأسلمي: يا بريدة لا تبغض علياً فإنه مني وأنا منه إن الناس خلقوا من شجر شتى وخلقت أنا وعليّ من شجرة واحدة" وقولـه (ع) بأحد وقد ظهرت نكايته في المشركين ووقايته إياه بنفسه حتى قال جبرائيل إن هذا لـهي المواساة فقال يا جبرائيل إنه مني وأنا منه فقال جبرائيل وأنا منكما.
{ وأنفسكم } يعني من شئتم من رجالكم { ثم نبتهل } أي نتضرع في الدعاء عن ابن عباس وقيل فنقول لعن الله الكاذب { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } منا وفي هذه الآية دلالة على أنهم علموا أن الحق مع النبي لأنهم امتنعوا عن المباهلة وأقرّوا بالذلّ والخزي لقبول الجزية فلو لم يعلموا ذلك لباهلوه فكان يظهر ما زعموا من بطلان قولـه في الحال ولو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم متيقناً بنزول العقوبة بعدوّه دونه لما أدخل أولاده وخواص أهلـه في ذلك مع شدة إشفاقه عليهم.