التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٧
-آل عمران

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: المحكم مأخوذ من قولك أحكمت الشيء إذا ثقفته وأتقنته وأمّ الكتاب أصلـه ومكّة أمّ القرى ويقال لَعَلم الجيش أمّ وأصلـه أُمَّهة ولذلك يجمع على أمّهات وقد يقال أمات أيضاً والمتشابه الذي يشبه بعضه بعضاً فيغمض أخذ من الشَبَه لأنه يشتبه به المراد والزيغ الميل وأزاغه أمالـه والتزايغ التمايل في الأسنان والابتغاء الطلب والفتنة أصلـها الاختبار من قولـهم فتنت الذهب بالنار أي اختبرته وقيل معناه خلصته والتأويل التفسير وأصلـه المرجع والمصير من قولـهم آل أمره إلى كذا يؤول أولاً إذا صار إليه وأوّلته تأويلاً إذا صيرته إليه قال الأعشى:

عَلى أَنَّها كانَتْ تَأَوِّل حُبِّها تَأَوُّلَ رَبْعِي السِّقابِ فَأَصْحَبا

أي كان حبها صغيراً فآل إلى العظم كما آل السقب وهو الصغير من أولاد النوق إلى الكبر والراسخون الثابتون يقال رسخ رسوخاً إذا ثبت في موضعه وأرسخه غيره.
الإعراب: منه آيات جملة من مبتدأ وخبر في موضع النصب على الحال من أنزل وتقديره أنزل الكتاب محكماً ومتشابهاً { هن أم الكتاب } جملة في موضع الرفع لكونها صفة لآيات وأخر عطف على آيات وهو صفة مبتدأ محذوف وتقديره ومنه آيات أخر ومتشابهات صفة بعد صفة وأخر غير منصرف. قال سيبويه: إن أخر فارقت أخواتها والأصل الذي عليه بناء أخواتها لأن أخر أصلـها أن يكون صلة بالألف واللام كما يقال الصغرى والصُغَر فلما عدل في مجرى الألف واللام وأصل أفعل منك وهي مما لا تكون إلا صفة منعت الصرف. وقال الكسائي: إنما لم تصرف لأنه صفة وهذا غلط لأن قولـهم مالٌ لُبَدٌ وحُطَمٌ منصرفان مع كونهما صفة وابتغاء نصب لأنه مفعول لـه في الموضعين { وكلٌّ مِن عند ربنا } مبتدأ وخبر وهو اسم دال على المضاف إليه كثير في الكلام حذف المضاف إليه منه عند البصريين ولا يجيزون إنّا كلا فيها على الصفة وأجازه الكوفيون لأنه إنما حذف عندهم لدلالته عليه إسماً كان أو صفة وإنما بني قبل على الغاية ولم يبن كل وإن حذف من كل واحد منهما المضاف إليه لأن قبل ظرف يُعرَّف ويُنَكّر ففرق بين ذلك بالبناء الذي يدل على تعريفه بالمضاف إليه والإعراب الذي يدل على تنكيره بالانفصال وليس كذلك كل لأنه معرفة في الأفراد دون نكرة فأما ليس غيرُ فمشبه بحسبُ لما فيه من معنى الأمر.
المعنى: لما تقدم بيان إنزال القران عقبه بيان كيفية إنزالـه فقال: { هو الذي أنزل عليك } يا محمد { الكتاب } أي القرآن { منه } أي من الكتاب { آيات محكمات هن أم الكتاب } أي أصل الكتاب { وأُخر متشابهات } قيل في المحكم والمتشابه أقوال أحدها: أن المحكم ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن إليه ولا دلالة تدل على المراد به لوضوحه نحو قولـه تعالى
{ إن الله لا يظلم الناس شيئاً } [يونس: 44] { ولا يظلم مثقال ذرة } [النساء: 40] ونحو ذلك مما لا يحتاج في معرفة المراد به إلى دليل والمتشابه ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه لالتباسه نحو قولـه { { وأضلـه الله على علم } [الجاثية: 23] فإنه يفارق قولـه: { وأضلـهم السامري } [طه: 85] لأن إضلال السامري قبيح وإضلال الله تعالى حسن وهذا معنى قول مجاهد المحكم ما لم تشتبه معانيه والمتشابه ما اشتبهت معانيه وإنما يقع الاشتباه في أمور الدين كالتوحيد ونفي التشبيه والجور ألا ترى أن قولـه { ثم استوى على العرش } [الأعراف: 54] يحتمل في اللغة أن يكون كاستواء الجالس على سريره وأن يكون بمعنى القهر والاستيلاء والوجه الأول لا يجوز عليه سبحانه وثانيها: أن المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ عن ابن عباس وثالثها: أن المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً والمتشابه ما يحتمل وجهين فصاعداً عن محمد بن جعفر بن الزبير وأبي علي الجبائي ورابعها: أن المحكم ما لم تتكرر ألفاظه والمتشابه ما تكرر ألفاظه كقصة موسى وغير ذلك عن ابن زيد وخامسها: أن المحكم ما يعلم تعيين تأويلـه والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويلـه كقيام الساعة عن جابر بن عبد الله وإنما وحّد أم الكتاب ولم يقل هن أمهات الكتاب لوجهين أحدهما: أنه على وجه الجواب كأنه قيل ما أم الكتاب فقال هن أم الكتاب كما يقال من نظير زيد فيقال نحن نظيره والثاني: أن الآيات بمجموعها أصل الكتاب وليست كل آية محكمة أم الكتاب وأصلـه لأنها جرت مجرى شيء واحد في البيان والحكمة ومثلـه قولـه { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } [المؤمنون: 50] ولم يقل آيتين لأن شأنهما واحد في أنها جاءت به من غير ذَكَر فلم تكن الآية لـها إلا به ولا لـه إلا بها ولو أراد أن كل واحد منهما آية على التفصيل لقال آيتين.
{ فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي ميل عن الحق وإنما يحصل الزيف بشك أو جهل { فيتبعون ما تشابه منه } أي يحتجون به على باطلـهم { ابتغاء الفتنة } أي لطلب الضلال والإضلال وإفساد الدين على الناس وقيل لطلب التلبيس على ضعفاء الخلق عن مجاهد، وقيل لطلب الشرف والمال كما سمى الله المال فتنة في مواضع من كتابه وقيل المراد بالفتنة هنا هنا الكفر وهو المروي عن أبي عبد الله وقول الربيع والسدي { وابتغاء تأويلـه } ولطلب تأويلـه على خلاف الحق وقيل لطلب مدة آكل محمد على حساب الجمل وابتغاء معاقبته ويدل على ذلك قولـه
{ { ذلك خير وأحسن تأويلاً } [النساء: 59] أي عاقبة وقول العرب تأول الشيء إذا انتهى وقال الزجاج معنى ابتغائهم تأويلـه أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم فأعلم الله أن ذلك لا يعلمهُ إلا الله ويدل على ذلك قولـه { { هل ينظرون إلا تأويلـه } [الأعراف: 53] واختلف في الذين عنوا بهذا فقيل عنى بهِ وفد نجران لما حاجوه في أمر عيسى وسألوه فقالوا أليس هو كلمة الله وروحاً منه فقال: "بلى" فقالوا حسبنا فأنزل الله فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتَبعون ما تشابه منه يعني أنهم قالوا إن الروح ما فيه بقاء البدن فأجروه على ظاهره والمسلمون يحملونه على أن بقاء البدن كله كان في وقته به كما أن بقاء البدن بالروح. وقد قامت الدلالة على أن القديم تعالى ليس بذي أجزاء وأعضاء وإنما يضاف الروح إليه تشريفاً للروح كما يضاف البيت إليه ثم أنزل { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب } [آل عمران: 59] عن الربيع. وقيل هم اليهود طلبوا علم أكل هذه الأمة واستخرجه بحساب الجمل عن الكلبي وقيل هم المنافقون عن ابن جريج وقيل بل كل من احتج بالمتشابه لباطلـه فالآية فيه عامة كالحرورية والسبائية عن قتادة.
{ وما يعلم تأويلـه إلا الله والراسخون في العلم } أي الثابتون في العلم الضابطون لـه المتقنون فيه واختلف في نظمه وحكمه على قولين أحدهما: أن الراسخون معطوف على الله بالواو على معنى أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله وإلا الراسخون في العلم فإنهم يعلمونا ويقولون على هذا في موضع النصب على الحال وتقديره قائلين { آمنا به كل من عند ربنا } كقول ابن المفرغ الحميري:

الرِّيــحُ تَبْكي شَجْوَةً وَالبَرقُ يَلْمَعُ في غَمامَهْ

أي والبرق يبكي أيضاً لامعاً في غمامه وهذا قول ابن عباس والربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير واختيار أبي مسلم وهو المروي عن أبي جعفر (ع) فإنه قال كان رسول الله أفضل الراسخين في العلم قد علم جميع ما أنزل الله عليه من التأويل والتنزيل وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يُعلّمه تأويلـه وهو وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلـه ومما يؤيد هذا القول أن الصحابة والتابعين أجمعوا على تفسير جميع آي القرآن ولم نرهم توقفوا على شيء منه ولم يفسروه بأن هذا متشابه لا يعلمه إلا الله وكان ابن عباس يقول في هذه الآية إنا من الراسخين في العلم. والقول الآخر: أن الواو في قولـه والراسخون واو الاستئناف فعلى هذا القول يكون تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى والوقف عند قولـه وما يعلم تأويلـه إلا الله ويبتدي والراسخون في العلوم يقولون آمنا به فيكون مبتدأ وخبراً وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير والحسن ومالك واختيار الكسائي والفراء والجبائي.
وقالوا إن الراسخين لا يعلمون تأويلـه ولكنهم يؤمنون به فالآية راجعة على هذا التأويل إلى العلم بمدة أكل هذه الأمة ووقت قيام الساعة وفناء الدنيا ووقت طلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى وخروج الدجال ونحو ذلك مما استأثر الله بعلمه ويكون التأويل على هذا القول بمعنى المتأول كقولـه هل ينظرون إلا تأويلـه يوم يأتي تأويلـه يعني الموعود به وقولـه كل من عند ربنا معناه المحكم والمتشابه جميعاً من عند ربنا { وما يذكر } أي وما يتفكر في آيات الله ولا يرد المتشابه إلى المحكم { إلا أولوا الألباب } أي ذوو العقول فإن قيل لم أنزل الله تعالى في القرآن المتشابهات وهَلاّ جعلـه كلـه محكماً فالجواب أنه لو جعل جميعه محكماً لاتكل الناس كلـه على الخبر واستغنوا عن النظر ولكان لا يتبين فضل العلماء على غيرهم ولكان لا يحصل لـهم ثواب النظر وإتعاب الخواطر في استنباط المعاني وقال القاضي الماوردي: قد وصف الله تعالى جميع القرآن بأنه محكم بقولـه { آلر كتاب أحكمت آياته } ووصف جميعه أيضاً بأنه متشابه بقولـهِ الله { نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً } فمعنى الأحكام الإتقان والمنع أي هو ممنوع بإتقانه وإحكام معانيه عن اعتراض خلل فيه فالقرآن كلـه محكم من هذا الوجه وقولـه متشابهاً أي يشبهُ بعضهُ بعضاً في الحسن والصدق والثواب والبعد عن الخلل والتناقض فهو كلـه متشابه من هذا الوجه.