التفاسير

< >
عرض

كَيْفَ يَهْدِي ٱللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوۤاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٨٦
أُوْلَـٰئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ
٨٧
خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
٨٨
إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٨٩
-آل عمران

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الخلود في اللغة طول المكث ولذلك يقال خُلّد فلان في السجن وقيل للأثافي خوالد ما دامت في مواضعها وإذا زالت لا يسمّى خوالد والفرق بين الخلود والدوام أن الخلود يقتضي طول المكث في نحو قولك خُلّد فلان في السجن ولا يقضي ذلك الدوام ولذلك وصف سبحانه بالدوام دون الخلود إلا أن خلود الكفار المراد به التأبيد بلا خلاف بين الأمة. والإنظار التأخير للعبد لينظر في أمره والفرق بينه وبين الإمهال أن الإمهال هو تأخيره لتسهيل ما يتكلفه من عملـه.
الإعراب: كيف أصلـه الاستفهام والمراد به هنا الإنكار لأنهُ لا تقع هذه الـهداية من الله أي لا يهديهم الله كقولـه كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسولـه أي لا يكون قال الشاعر:

كَيْفَ نَوْمي عَلَى الفِراشِ ولمّا يَشْمَلِ الشّامَ غارَةٌ شَعْواءُ

وإنما دخلـه معنى الإنكار مع أن أصلـه الاستفهام لأن المسؤول يسأل عن أغراض مختلفة فقد يسأل للتعجيز إقامة البرهان، وقد يسأل للتوبيخ مما يظهر من معنى الجواب في السؤال وقد يسأل لما يظهر فيه من الإنكار وإنما عطف قولـه { شهدوا } وهو فعل على إيمانهم وهواسم لأن الإيمان مصدر والمراد به الفعل والتقدير بعد أن آمنوا وشهدوا وأجمعين تأكيد للناس ودخلت الفاء في قولـه { فإن الله غفور رحيم } لأنه يشبه الجزاء إذ كان الكلام قد تضمن معنى إن تابوا فإن الله يغفر لـهم ولا يجوز أن يكون في موضع خبر الذين لأن الذين في موضع نصب بالاستثناء من الجملة التي هي قولـه { أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله } ولا يحمل على المنقطع مع حسن الاتصال لأنه الأصل في الكلام والأسبق إلى الأفهام.
النزول: قيل نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال لـه حارث بن سويد بن الصامت وكان قتل المجذر بن زياد البلوي غدراً وهرب وارتد عن الإسلام ولحق بمكة ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة فسألوا فنزلت الآية إلى قولـه { إلا الذين تابوا } فحملـها إليه رجل من قومه فقال إني لأعلم أنك لصدوق ورسول الله أصدق منك وأن الله أصدق الثلاثة ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه عن مجاهد والسدي وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) وقيل نزلت في أهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ثم كفروا بعد البعثة حسداً وبغياً عن الحسن والجبائي وأبي مسلم.
المعنى: لمّا بَيَّن تعالى أن الإسلام هو الدين الذي به النجاة بَيّن حال من خالفه فقال { كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم } فيه وجوه أحدها: أن معناه كيف يسلك الله بهم سبيل المهتدين بالإثابة لـهم والثناء عليهم وقد كفروا بعد إيمانهم - وثانيها: أنه على طريق التبعيد كما يقال كيف أهديك إلى الطريق وقد تركته أي لا يهديهم به إلى الإيمان إلاّ من الوجه الذي هداهم به وقد تركوه ولا طريق غيره - وثالثها: أن المراد كيف يهديهم الله إلى الجنة ويثيبهم والحال هذه وقولـه { وشهدوا أن الرسول حق } عطف على قولـه بعد إيمانهم دون قولـه { كفروا } وتقديره بعد أن آمنوا وشهدوا أن الرسول حق.
{ وجاءهم البينات } أي البراهين والحجج وقيل القرآن وقيل جاءهم ما في كتبهم من البشارة لمحمد { والله لا يهدي القوم الظالمين } أي لا يسلك بالقوم الظالمين مسلك المهتدين ولا يثيبهم ولا يهديهم إلى طريق الجنة لأن المراد الـهداية المختصة بالمهتدين دون الـهداية العامة المرادة في قولـه
{ وأما ثمود فهديناهم } [فصلت: 17] والمراد بالإيمان ها هنا إظهار الإيمان دون الإيمان الذي يستحق به الثواب وليس في الآية ما يدل على أنهم قد كانوا في باطنهم مؤمنين مستحقين الثواب فزال ذلك بالكفر فلا متعلق للمخالف به.
{ أولئك جزاؤهم } على أعمالـهم { أن عليهم لعنة الله } وهي إبعاده إياهم من رحمته ومغفرته { والملائكة والناس أجمعين } وهي دعاؤهم عليهم باللعنة وبأن يبعدهم الله من رحمته { خالدين فيها } أي في اللعنة لخلودهم فيما استحقوا باللعنة وهو العذاب و { لا يخفف عنهم العذاب } ولا يسهل عليهم { ولا هم ينظرون } أي ولا يمهلون للتوبة ولا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت آخر ونما نفى إنظارهم للتوبة والإنابة لما علم من حالـهم أنهم لا ينيبون ولا يتوبون كما قال ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه على أن التقية ليست بواجبة وإن علم أنه لو أبقاه لتاب وأناب عند أكثر المتكلمين { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } أي تابوا من الكفر ورجعوا إلى الإيمان وأصلحوا ضمائرهم وعزموا على أن يثبتوا على الإسلام وهذا أحسن من قول من قال وأصلحوا أعمالـهم بعد التوبة وصلّوا وصاموا فإن ذلك ليس بشرط في صحة التوبة إذ لو مات قبل فعل الصالحات مات مؤمناً بالإجماع { فإن الله غفور } يغفر ذنوبهم { رحيم } يوجب الجنة لـهم وذكر المغفرة دليل على أن إسقاط العقاب بالتوبة تفضل منه سبحانه وأن ما لا يجوز المؤاخذة به أصلاً لا يجوز تعليقه بالمغفرة وأن ما يعلق بالمغفرة ما يكون لـه المؤاخذة به.