التفاسير

< >
عرض

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٢١
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ
٢٢
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
٢٣
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٢٤
وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ
٢٥
-الروم

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ حفص للعالمين بكسر اللام الأخيرة والباقون بفتحها.
الحجة: قال أبو علي: خصّ العالِمين في رواية حفص وإن كانت الآية لكافة الناس عالمهم وجاهلهم لأن العالم لما تدبَّر فاستدل بما شاهده على ما لم يستدل عليه غيره صار كأنه ليس بآية لغير العالم لذهابه عنها وتركه الاعتبار بها ومن قال: { للعالمين } فلأن ذلك في الحقيقة دلالة وموضع اعتبار وإن ترك تاركون لغفلتهم أو لجهلهم التدبر بها والاستدلال بها.
الإعراب: في قوله { ومن آياته يريكم البرق } أقوال:
أحدها: أن التقدير ومن آياته أن يريكم فلما حذف أن ارتفع الفعل كقول طرفة:

ألا أيُّ هذا الزّاجِري أحْضُرُ الوَغى وَأنْ أشْهَـــدُ اللَّذات هَلْ أنْتَ مُخْلِدي

وفي المثل تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.
وثانيها: أن التقدير ومن آياته آية يريكم البرق بها ثم حذف لدلالة من عليها ومثله من الشعر:

وَمَــــا الـــدَّهْرُ إلاّ تــارتَان فَمِنْهُمــا أَمُوتُ وأُخرى أَبْتَغِي العَيْشَ أَكْدَحُ

أي فمنها تارة أموتها أي أموت فيها.
وثالثها: أن يكون التقدير ويريكم البرق خوفاً وطمعاً ومن آياته فيكون عطفاً لجملة على جملة وقوله { خوفاً وطمعاً } منصوبان على تقدير اللام والتقدير لتخافوا خوفاً ولتطمعوا طمعاً { ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض } الجار يتعلق بمحذوف في موضع الحال من الكاف والميم أي إذا دعاكم خارجين من الأرض وإن شئت كان وصفاً للنكرة أي دعوة ثابتة من هذه الجهة ولا يجوز أن يتعلق بيخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبله.
المعنى: ثم عطف سبحانه على ما قدَّمه من تنبيه العبيد على دلائل التوحيد فقال { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم } أي جعل لكم من شكل أنفسكم ومن جنسكم { أزواجاً } وإنما منَّ سبحانه علينا بذلك لأن الشكل إلى الشكل أميل عن أبي مسلم. وقيل: معناه أن حواء خلقت من ضلع آدم (ع) عن قتادة. وقيل: إن المراد بقوله { من أنفسكم } أن النساء خلقن من نطف الرجل { لتسكنوا إليها } أي لتطمئنوا إليها وتألفوا بها ويستأنس بعضكم ببعض { وجعل بينكم مودة ورحمة } يريد بين المرأة وزوجها جعل سبحانه بينهما المودَّة والرحمة فهما يتوادان ويتراحمان وما شيء أحبّ إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما. قال السدي: المودّة المحبة والرحمة الشفقة { إن في ذلك } أي في خلق الأزواج مشاكلة للرجال { لآيات } أي لدلالات واضحات { لقوم يتفكرون } في ذلك ويعتبرون به.
ثم نبَّه سبحانه على آية أخرى فقال: { ومن آياته } الدالة على توحيده { خلق السماوات والأرض } وما فيهما من عجائب خلقه وبدائع صنعه مثل ما في السماوات من النجوم والشمس والقمر وجريها في مجاريها على غاية الاتساق والنظام وما في الأرض من أنواع الجماد والنبات والحيوان المخلوقة على وجه الإحكام.
{ واختلاف ألسنتكم } فالألسنة جمع لسان واختلافها هو أن ينشئها الله تعالى مختلفة في الشكل والهيئة والتركيب فتختلف نغماتها وأصواتها حتى أنه لا يشتبه صوتان من نفسين هما أخوان. وقيل: إن اختلاف الألسنة هو اختلاف اللغات من العربية والعجمية وغيرهما ولا شيء من الحيوانات تتفاوت لغاتها كتفاوت لغات الإنسان فإن كانت اللغات توقيفاً من قبل الله تعالى فهو الذي فعلها وابتدأها وإن كانت مواضعة من قبل العباد فهو الذي يسرها { وألوانكم } أي واختلاف ألوانكم من البياض والحمرة والصفرة والسمرة وغيرها فلا يشبه أحد أحداً مع التشاكل في الخلقة وما ذلك إلا للتراكيب البديعة واللطائف العجيبة الدالة على كمال قدرته وحكمته حتى لا يشتبه اثنان من الناس ولا يلتبسان مع كثرتهم.
{ إن في ذلك لآيات } أي أدلة واضحات { للعالمين } أي للمكلفين { ومن آياته } الدالة على توحيده وإخلاص العبادة له { منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله } بالنهار وهذا تقديره أي يصرفكم في طلب المعيشة والمنام والنوم بمعنى واحد. وقيل: إن الليل والنهار معاً وقت للنوم ووقت لابتغاء الفضل لأن من الناس من يتصرف في كسبه ليلاً وينام نهاراً فيكون معناه ومن دلائله النوم الذي جعله الله راحة لأبدانكم بالليل وقد تنامون بالنهار فإذا انتبهتم انتشرتم لابتغاء فضل الله { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } ذلك فيقبلونه ويتفكرون فيه لأن من لا يتفكر فيه لا ينتفع به فكأنه لم يسمعه.
{ ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً } معناه ومن دلالاته أن يريكم النار تنقدح من السحاب يخافه المسافر ويطمع فيه المقيم عن قتادة. وقيل: خوفاً من الصواعق وطمعاً في الغيث عن الضحاك. وقيل: خوفاً من أن يخلف ولا يمطر وطمعاً في المطر عن أبي مسلم { وينزل من السماء ماء } أي غيثاً ومطراً { فيحيي به } أي بذلك الماء { الأرض بعد موتها } أي بعد انقطاع الماء عنها وجدوبها { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } أي للعقلاء المكلفين.
{ ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } بلا دعامة تدعمها ولا علاقة تتعلق بها بأمره لهما بالقيام كقوله تعالى
{ { إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [النحل: 40]. وقيل: بأمره أي بفعله وإمساكه إلا أن أفعال الله عز اسمه تضاف إليه بلفظ الأمر لأنه أبلغ في الاقتدار فإن قول القائل أراد فكان أوامر فكان أبلغ في الدلالة على الاقتدار من أن يقول فعل فكان ومعنى القيام الثبات والدوام ويقال السوق قائمة.
{ ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض } أي من القبر عن ابن عباس يأمر الله عزَّ اسمه إسرافيل (ع) فينفخ في الصور بعد ما يصور الصور في القبور فيخرج الخلائق كلهم من قبورهم { إذا أنتم تخرجون } من الأرض أحياء. وقيل: إنه سبحانه جعل النفخة دعاء لأن إسرافيل يقول أجيبوا داعي الله فيدعو بأمر الله سبحانه. وقيل: إن معناه أخرجكم من قبوركم بعد أن كنتم أمواتاً فيها فعبَّر عن ذلك بالدعاء إذ هو بمنزلة الدعاء وبمنزلة { كن فيكون } في سرعة تأتي ذلك وامتناع التعذر وإنما ذكر سبحانه هذه المقدورات على اختلافها ليدلَّ عباده على أنه القادر الذي لا يعجزه شيء العالم الذي لا يعزب عنه شيء وتدلُّ هذه الآيات على فساد قول من قال: إن المعارف ضرورية لأن ما يعرف ضرورة لا يمكن الاستدلال عليه.