التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ
٨
أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
٩
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ
١٠
-الروم

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة غير البرجمي والشموني عن أبي بكر عاقبة بالنصب والباقون بالرفع.
الحجة: قال أبو علي: من نصب { عاقبة } جعلها خبر كان ونصبها متقدمة كما قال: { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } فأما اسمها على هذه القراءة فيجوز أن يكون أحد الشيئين السوأى عاقبة الذين أساؤوا ويكون إن كذبوا مفعولاً له لأن كذبوا ولا يجوز أن يكون كذبوا متعلقاً بقوله: { أساؤوا } على هذا لأنك تفصل بين الصلة والموصول باسم كان أو يكون إن كذبوا إسم كان والتقدير ثم كان التكذيب عاقبة الذين أساؤوا ويكون السوأى على هذا مصدراً لأساؤوا لأن فعلى من أبنية المصادر كالرجعى والشورى والبشرى ويدل على أن السوأى بمنزلة المصدر ما أنشده أبو عمرو:

أنّــى جَـــزَوْا عامِـــراً سُـوءاً بِفِعْلِهِمْ أمْ كَيْفَ يَجْزُونَني السُّوأى مِنَ الْحَسَنِ

ومن رفع عاقبة جاز أن يكون الخبر أحد الشيئين السوأى وإن كذبوا كما جاز في النصب أن يكون كل واحد منهما الاسم ومعنى الذين أساؤوا الذين أشركوا والتقدير ثم كان عاقبة المسيء التكذيب بآيات الله أي لم يظفر في كفره وشركه بشيء إلا بالتكذيب وإذا جعلت أن كذبوا نفس الخبر جعلت السوأى في موضع نصب بأنه مصدر وقد يجوز أن يكون السوأى صفة لموصوف محذوف كأنه قال: الخلة السوأى أو الخلال السوأى.
المعنى: ثم حثَّ سبحانه على التفكّر والتدبّر فيما يدل على توحيده من خلق السماوات والأرض ثم في أحوال القرون الخالية والأمم الماضية فقال: { أولم يتفكروا في أنفسهم } أي في حال الخلوة لأن في تلك الحالة يتمكن الإنسان من نفسه ويحضره ذهنه. وقيل: معناه أو لم يتفكروا في خلق الله أنفسهم والمعنى أو لم يتفكروا فيعلموا وحذف لأن في الكلام دليلاً عليه { ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق }. قال الزجاج: معناه إلا للحق أي لإقامة الحق ومعناه للدلالة على الصانع والتعريض للثواب { وأجل مسمى } أي ولوقت معلوم توفى فيه كل نفس ما كسبت. وقيل: معناه خلقها في أوقات قدرها اقتضت المصلحة خلقها فيها ولم يخلقها عبثاً عن الجبائي.
سؤال: قالوا: كيف يعلم المتفكر في نفسه أن الله سبحانه لم يخلق شيئاً إلا بالحق وكيف يعلم الآخرة.
جواب: قلنا: إذا علم بالنظر في نفسه أنه محدث مخلوق وأن له محدثاً قديماً قادراً عالماً حيّاً وأنه لا يفعل القبيح وأنه حكيم علم أنه لم يخلقه عبثاً وإنما خلقه لغرض وهو التعريض للثواب وذلك لا يتم إلا بالتكليف فلا بدّ إذاً من الجزاء فإذا لم يوجد في الدنيا فلا بدّ من دار أخرى يجازى فيها ويعلم إذا خلق ما لا ينتفع بنفسه فلا بدّ أن يكون الغرض أن ينتفع الحي به.
{ وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون } أي بلقاء جزاء ربهم وبالبعث وبيوم القيامة لجاحدون غير معترفين.
ثم نبَّههم سبحانه دفعة أخرى فقال: { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } من الأمم { كانوا أشد منهم قوة } فهلكوا وبادوا فيعتبروا بهم لعلمهم أنهم أهلكوا بتكذيبهم { وأثاروا الأرض } أي وقلبوها وحرثوها بعمارتها عن مجاهد: { وعمروها أكثر مما عمروها } أي أكثر مما عمروها هؤلاء الكفار لأنهم كانوا أكثر أموالاً وأطول أعماراً وأكثر أعداداً فحفروا الأنهار وغرسوا الأشجار وبنوا الدور وشيَّدوا القصور ثم تركوها وصاروا إلى القبور وإلى الهلاك والثبور { وجاءتهم رسلهم بالبينات } أي أتتهم رسلهم بالدلالات من عند الله وفي الكلام حذف تقديره فجحدوا الرسل وكذبوا بتلك الرسل فأهلكهم الله بالعذاب: { فما كان الله ليظلمهم } بأن يهلكهم من غير استحقاق { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بأن جحدوا رسل الله وأشركوا معه في العبادة سواه حتى استحقوا العذاب عاجلاً وآجلاً:
{ ثم كان عاقبة الذين أساؤوا } إلى نفوسهم بالكفر بالله وتكذيب رسله وارتكاب معاصيه { السوأى } أي الخلة التي تسوء صاحبها إذا أدركها وهي عذاب النار عن ابن عباس وقتادة { أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون } أي لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها.