التفاسير

< >
عرض

يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
١٦
يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ
١٧
وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
١٨
وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ
١٩
أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ
٢٠
-لقمان

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قد ذكرنا في سورة الأنبياء أن قراءة أهل المدينة { مثقال حبة } بالرفع وقراءة الباقين بالنصب وقرأ أهل الكوفة غير عاصم وأبو عمرو ونافع ولا تصاعر بالألف والباقون ولا تصعِّر بالتشديد وقرأ أهل المدينة والبصرة غير يعقوب وحفص نعمه على الجمع والباقون نعمة على الواحد وفي الشواذ قراءة عبد الكريم الجزري فَتَكِنُ في صخرة بكسر الكاف وقراءة يحيى بن عمارة وأصبغ بالصاد عليكم نعمة ظاهرة وباطنة.
الحجة: قال أبو علي: من قرأ { إن تك مثقالُ } بالرفع فألحق علامة التأنيث بالفعل فلأن المثقال هو السيئة أو الحسنة فأنث على المعنى كما قال
{ { فله عشر أمثالها } [الأنعام: 16] فأنَّث ومن قرأ مثقال بالنصب فالمعنى أن تك المظلمة أو السيئة أو الحسنة مثقال حبة أتى بها الله وأثاب عليها أو عاقب وأما قوله { ولا تصعِّر } فإنه يشبه أن يكون لا تصعر ولا تصاعر بمعنى كما قال سيبويه: في ضعف وضاعف. وقال أبو الحسن: لا تصاعر لغة أهل الحجاز ولا تصعر لغة بني تميم. وقال أبو عبيدة: أصله من الصعر الذي يأخذ الإبل في رؤوسها وأعناقها.
قال أبو علي: فكأنه يقول لا تعرض عنهم ولا تزور كازورار الذي به هذا الداء الذي يلوي منه عنقه ويعرض بوجهه والنعم جمع نعمة فالنعم للكثير ونعم الله تعالى كثيرة والمفرد أيضاً يدل على الكثرة قال:
{ { وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها } [إبراهيم: 34] وأما قوله { ظاهرة وباطنة } فلا ترجيح فيه لإحدى القراءتين على الأخرى ألا ترى أن النعم توصف بالظاهرة والباطنة كما توصف النعمة بذلك ومن قرأ فتكِنُ فهو من وَكَنَ الطائر يَكِنُ إذا استقرَّ في وكنه ومنه قول امرىء القيس:

وَقَد أَغْتَدِي وَالطَّيْرُ في وكُناتِها بِمُنْجَــرَدٍ قَيْـــدِ الأَوابِــدِ هَيْكَـلِ

وقوله أصبغ أبدل فيه السين صاداً لأجل الغين كما قالوا سالغ وصالغ.
المعنى: ثم عاد سبحانه إلى الإخبار عن لقمان ووصيته لابنه وأنه قال له { يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل } معناه أن فعلة الإنسان من خير أو شر إن كانت مقدار حبة خردل في الوزن ويجوز أن يكون الهاء في أنها ضمير القصة كما في قوله
{ { فإنها لا تعمى الأبصار } [الحج: 46]. قال الزجاج: يروى أن ابن لقمان سأل لقمان فقال: أرأيت الحبة تكون في مقل البحر أي مغاص البحر يقال مقل يمقل إذا غاص أيعلمها الله فقال إنها أي إن التي سألتني عنها إن تك مثقال حبة من خردل.
{ فتكن في صخرة } أي فتكن تلك الحبة في جبل عن قتادة والمعنى في صخرة عظيمة لأن الحبة فيها أخفى وأبعد من الاستخراج { أو في السماوات أو في الأرض } ذكر السماوات والأرض بعد ذكر الصخرة وإن كان لا بدّ وإن تكون الصخرة في الأرض على وجه التأكيد كما قال:
{ اقرأ باسم ربك الذي خلق } [العلق: 1] ثم قال { خلق الإنسان } [العلق: 2] وقال السدي: هذه الصخرة ليست في السماوات ولا في الأرض هي تحت سبع أرضين وهذا قول مرغوب عنه { يأت بها الله } أي يحضرها الله يوم القيامة ويجازي عليها أي يأت بجزاء ما وازنها من خير أو شرّ. وقيل: معناه يعلمها الله فيأتي بها إذا شاء كذلك قليل العمل من خير أو شر يعلمه الله فيجازي عليه فهو مثل قوله { { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } [الزلزلة: 7 و 8] وروى العياشي بالإسناد عن ابن محكان عن أبي عبد الله (ع) قال: اتقوا المحقرات من الذنوب فإن لها طالباً لا يقولن أحدكم أذنب وأستغفر الله إن الله تعالى يقول: إن تك مثقال حبة من خردل الآية.
{ إن الله لطيف } باستخراجها { خبير } بمستقرّها عن قتادة. وقيل: اللطيف العالم بالأمور الخفية والخبير العالم بالأشياء كلها.
{ يا بني } إنما صغَّر اسمه في هذه المواضيع للرقة والشفقة لا للتحقير { أقم الصلاة } أي أدّ الصلاة المفروضة في ميقاتها بشروطها { وأمر بالمعروف } وهو الطاعة { وانه عن المنكر } وهو كل معصية وقبيح سواء كان من القبائح العقلية أو الشرعية فإن المعروف ما يدعو إليه العقل والشرع والمنكر ما يزجر عنه العقل والشرع { واصبر على ما أَصابك } من المشقة والأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن علي (ع). وقيل: ما أصابك من شدائد الدنيا ومكارهها من الأمراض وغيرها عن الجبائي { إن ذلك من عزم الأمور } أي من العقد الصحيح على فعل الحسن بدلاً من القبيح والعزم الإرادة المتقدمة للفعل بأكثر من وقت وهو العقد على الأمر لتوطين النفس على فعله والتلون في الرأي يناقض العزم وقيل معناه أن ذلك من الأمور التي يجب الثبات والدوام عليها وقيل العزم القوة والحزم الحذر ومنه المثل لا خير في عزم بغير حزم وقيل الحزم التأهّب للأمر والعزم النفاذ فيه ومنه قيل في المثل: رَوِّ بحزم فإذا استوضحت فاعزم.
{ ولا تصعّر خدِّك للناس } أي ولا تمل وجهك من الناس تكبّراً ولا تعرض عمن يكلّمك استخفافاً به وهذا معنى قول ابن عباس وأبي عبد الله (ع) يقال أصاب البعير صعر أي داء يلوي منه عنقه فكأن المعنى لا تلزم خدّك للصعر لأنه لا داء للإنسان أدوى من الكبر قال:

وكُنَّا إِذَا الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أقَمْنــا لَهُ مِــنْ دَرْئِهِ فَتَقَوَّمَا

وقيل هو أن يكون بينك وبين إنسان شيء فإذا لقيته أعرضت عنه عن مجاهد وقيل هو أن يسلّم عليك فتلوي عنقك تكبّراً عن عكرمة { ولا تمش في الأرض مرحاً } أي بطراً وخيلاء { إن الله لا يحب كل مختال فخور } أي كل متكبر فخور على الناس.
{ واقصد في مشيك } أي اجعل في مشيك قصداً مستوياً على جه السكون والوقار كقوله
{ { الذين يمشون على الأرض هوناً } [الفرقان: 63] قال قتادة معناه تواضع في مشيك وقال سعيد بن جبير ولا تختل في مشيك { واغضض من صوتك } أي انقص من صوتك إذا دعوت وناجيت ربك عن عطاء وقيل لا تجهر كل الجهر واخفض صوتك ولا ترفعه مطاولاً به.
{ إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } أي أقبح الأصوات صوت الحمير أوله زفير وآخره شهيق عن قتادة يقال وجه منكر أي قبيح. أمر لقمان ابنه بالاقتصاد في المشي والنطق وروي عن زيد بن علي أنه قال أراد صوت الحمير من الناس وهم الجهال شبَّههم بالحمير كما شبَّههم بالأنعام في قوله
{ { أُولئك كالأنعام } [الأعراف: 179] وروي عن أبي عبد الله (ع) قال هي العطسة المرتفعة القبيحة والرجل يرفع صوته بالحديث رفعاً قبيحاً إلا أن يكون داعياً أو يقرأ القرآن ثم ذكر سبحانه نعمه على خلقه ونبَّههم على معرفتها فقال:
{ ألم تروا أن الله سخَّر لكم ما في السماوات } من الشمس والقمر والنجوم { وما في الأرض } من الحيوان والنبات وغير ذلك مما تنتفعون به وتتصرفون فيه بحسب ما تريدون { وأسبغ عليكم } أي أوسع عليكم وأتمَّ عليكم نعمه { ظاهرة وباطنة } فالظاهرة ما لا يمكنكم جحده من خلقكم وإحيائكم وإقداركم وخلق الشهوة فيكم وغيرها من ضروب النعم والباطنة ما لا يعرفها إلا من أمعن النظر فيها وقيل الباطنة مصالح الدين والدنيا مما يعلمه الله وغاب عن العباد علمه عن ابن عباس وفي رواية الضحاك عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال:
" "يا ابن عباس أما ما سوى الله من خلقك وما أفاض عليك من الرزق وأما ما بطن فستر مساوىء عملك ولم يفضحك به يا ابن عباس إن الله تعالى يقول ثلاثة جعلتهن للمؤمن ولم تكن له صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله وجعلت له ثلث ماله أكفر به عنه خطاياه والثالث سترت مساوىء عمله ولم أفضحه بشيء منه ولو أبديتها عليه لنبذه أهله فمن سواهم" . وقيل: الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة الشفاعة عن عطاء. وقيل: الظاهرة نعم الدنيا والباطنة نعم الآخرة. وقيل: الظاهرة نعم الجوارح والباطنة نعم القلب عن الربيع. وقيل: الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء والباطنة الإمداد بالملائكة عن مجاهد. وقيل: الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة عن الضحاك. وقيل: الظاهرة القرآن والباطنة تأويله ومعانيه. وقال الباقر (ع): النعمة الظاهرة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به النبي من معرفة الله عز وجل وتوحيده وأما النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت وعقد مودّتنا ولا تنافي بين هذه الأقوال وكلها نعم الله تعالى ويجوز حمل الآية على الجميع.
{ ومن الناس من يجادل } أي يخاصم في الله { بغير علم } بما يقوله { ولا هدى } أي ولا دلالة وحجة { ولا كتاب منير } أي ولا كتاب من عند الله ظاهر واضح وقد مضى هذا مفسّراً في سورة الحج.