التفاسير

< >
عرض

تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
١٦
فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٧
أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ
١٨
أَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٩
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
٢٠
-السجدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ حمزة ويعقوب ما أُخْفي لهم ساكنة الياء والباقون بفتحها وروي في الشواذ عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي هريرة وأبي الدرداء وابن مسعود قرّات أعين.
الحجة: قال أبو علي: الذي يقوّي بناء الفعل للمفعول به قوله { فلهم جنات المأوى نزلاً } فأبهم ذلك كما أبهم قوله { أخفي لهم } ولم يسند إلى فاعل بعينه ولو كان أخفي لكان أعطاهم جنات المأوى ويقوّي قراءة حمزة أن أخفي مثل { آتينا كل نفس هديها } وقوله { حق القول مني } وقوله { ومما رزقناهم ينفقون }
وأما ما في قوله { ما أخفي } فالأبين فيه أن يكون استفهاماً وهو عندي قياس قول الخليل فمن قال: أُخْفِيَ كان ما عنده مرفوعاً بالابتداء والذكر الذي في أخفى يعود إليه والجملة التي هي ما أخفيَ في موضع نصب ويعلم هو الذي يتعدّى إلى مفعولين كما أن قوله
{ { إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء } [العنكبوت: 42] كذلك ومن قال: ما أُخْفِي لهم فإن ما في موضعع نصب بأخفي والجملة في موضع نصب بيعلم كما كان في الأول كذلك ومثله قوله { { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } [الأنعام: 135] و { سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } [هود: 93] وما أشبه ذلك يحمل فيه العلم على التعدي إلى مفعولين ومن بعده للاستفهام وأما قوله { قرَّة أعين } فإن القرّة مصدر وكان القياس أن لا يجمع لأن المصدر اسم الجنس والأجناس أبعد شيء من الجمعية لكن جعلت القرة نوعاً ها هنا فجمع كما يقال: نحن في أشغال ولنا علوم.
اللغة: التجافي تعاطي الارتفاع عن الشيء ومثله النمو يقال: جفا عنه يجفو جفاء وتجافى عنه تجافياً إذا نبا عنه قال الشاعر:

وَصاحِبِي ذاتُ هِبابٍ دَمْشَقُ وَابْـن مِلاطٍ مُتَجـافٍ أرْفَقُ

والمضجع موضع الاضطجاع. وقال عبد الله بن رواحة يصف النبي صلى الله عليه وسلم:

يَبِـيتُ يُجافِـي جَنْبَـهُ عَـنْ فِراشِهِ إذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ المَضاجِعُ

الإِعراب: { خوفاً وطمعاً } مفعول له كما يقال: فعلت ذلك مخافة الشر. قال الزجاج: وحقيقته أنه في موضع المصدر لأن يدعون ربهم هنا يدل على أنهم يخافون عذابه ويرجون رحمته فهو في تأويل يخافون خوفاً ويطمعون طمعاً وقوله { جزاء } منصوب أيضاً بأنه مفعول له لا يستوون جواب الاستفهام أي لا يكون كذلك والواو الثانية في يستوون فاعل من وجه مفعول من وجه لأن المعنى لا يساوي هؤلاء أُولئك ولا أولئك هؤلاء ولو قال: لا يستويان لكان جائزاً ولكنَّه جاء على معنى لا يستوي المؤمنون والكافرون ويجوز أن يكون لا يستوون للاثنين لأن معنى الاثنين جماعة. { نزلاً } نصب على الحال والعامل فيه ما يتعلق به اللام من لهم. { كلما } ظرف زمان لأعيدوا.
المعنى: ثم وصف سبحانه المؤمنين المذكورين في الآية المتقدمة فقال { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } أي ترتفع جنوبهم عن مواضع اضطجاعهم لصلاة الليل وهم المتهجّدون بالليل الذين يقومون عن فرشهم للصلاة عن الحسن ومجاهد وعطاء وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع).
"وروى الواحدي بالإِسناد عن معاذ بن جبل قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وقد أصابنا الحرّ فتفرق القوم فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقربهم مني فدنوت منه فقلت: يا رسول الله أنبئني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسَّره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم شهر رمضان قال: وإن شئت أنبأتك بأبواب الخير قال قلت أجل يا رسول الله قال: الصوم جنة والصدقة تكفر الخطيئة وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله ثم قرأ هذه الآية { تتجافى جنوبهم عن المضاجع }" .
وبالإسناد عن بلال قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وإن قيام الليل قربة إلى الله ومنهاة عن الإِثم وتكفير للسيئات ومطردة الداء عن الجسد" . وقيل: هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة. قال أنس: نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء الآخرة مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم الذين يصلّون ما بين المغرب والعشاء الآخرة وهي صلاة الأوابين عن قتادة. وقيل: هم الذين يصلّون العشاء والفجر في جماعة.
{ يدعون ربهم خوفاً } من عذاب الله { وطمعاً } في رحمة الله { ومما رزقناهم ينفقون } في طاعة الله وسبيل ثوابه ووجه المدح في هذه الآية أن هؤلاء المؤمنين يقطعهم اشتغالهم بالصلاة والدعاء عن طيب المضجع لانقطاعهم إلى الله تعالى فآمالهم مصروفة إليه واتكالهم في كل الأمور عليه.
ثم ذكر سبحانه جزاءهم فقال { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أَعين } أَي لا يعلم أحد ما خبىء لهؤلاء الذين ذكروا مما تقرُّ به أعينهم. قال ابن عباس: عفا ما لا تفسير له فالأمر أعظم وأجلّ مما يعرف تفسيره وقد ورد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إن الله يقول أَعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بَلْهَ ما أطلعتكم عليه اقرؤوا إن شئتم { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أَعين }" رواه البخاري ومسلم جميعاً.
وقد قيل: في فائدة الإخفاء وجوه.
أحدها: أن الشيء إذا عظم خطره وجلَّ قدره لا تستدرك صفاته على كنهه إلا بشرح طويل ومع ذلك فيكون إبهامه أبلغ.
وثانيها: أن قرة العيون غير متناهية فلا يمكن إحاطة العلم بتفاصيلها.
وثالثها: أنه جعل ذلك في مقابلة صلاة الليل وهي خفيّة فكذلك ما بإزائها من جزائها ويؤيّد ذلك ما روي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: ما من حسنة إلا ولها ثواب مبيّن في القرآن إلا صلاة الليل فإن الله عز اسمه لم يبين ثوابها لعظم خطرها قال: { فلا تعلم نفس } الآية وقرة العين رؤية ما تقرَّ به العين يقال: أقرَّ الله عينك أي صادف فؤادك ما يرضيك فتقرَّ عينك حتى لا تطمح بالنظر إلى ما فوقه. وقيل: هي من القرّ أي البرد لأن المستبشر الضاحك يخرج من شؤون عينيه دمع بارد والمحزون المهموم يخرج من عينيه دمع حار ومنه قولهم سخنت عينه وهو قرير العين وسخين العين وإنما أضاف القرة إلى الأعين على الإِطلاق لا إلى أعينهم تنبيهاً على أنها غاية في الحسن والكمال فتقرُّ بها كل عين. { جزاء بما كانوا يعملون } من الطاعات في دار الدنيا { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً } هذا استفهام يراد به التقرير أي أيكون من هو مصدق بالله على الحقيقة عارفاً بالله وبأنبيائه عاملاً بما أوجبه الله عليه وندبه إليه مثل من هو فاسق خارج عن طاعة الله مرتكب لمعاصي الله ثم قال { لا يستوون } لأن منزلة المؤمن درجات الجنان ومنزلة الفاسق دركات النيران.
ثم فسَّر ذلك بقوله { أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى } يأوون إليها { نزلاً بما كانوا يعملون } أي عطاء بما كانوا يعملون عن الحسن. وقيل: ينزلهم الله فيها نزلاً كما ينزل الضيف يعني أنهم في حكم الأضياف { وأما الذين فسقوا فمأواهم } الذي يأوون إليه { النار } نعوذ بالله منها { كلما أرادوا أن يخرجوا منها } أي كلما همُّوا بالخروج منها لما يلحقهم من ألم العذاب { أعيدوا } أي ردُّوا { فيها } وقد مر بيانه في سورة الحج.
{ وقيل لهم } مع ذلك { ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } أي لا تصدقون به وتجحدون وفي هذا دلالة على أن المراد بالفاسق هنا الكافر المكذب. قال ابن أبي ليلى: نزل قوله { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً } الآيات في علي بن أبي طالب (ع) ورجل من قريش وقال غيره: نزلت في علي بن أبي طالب (ع) والوليد بن عقبة فالمؤمن علي والفاسق الوليد وذلك أنه قال لعلي (ع): أنا أبسط منك لساناً وأَحدُّ منك سناناً. فقال علي (ع): ليس كما تقول يا فاسق. قال قتادة: لا والله ما استووا لا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة.