التفاسير

< >
عرض

وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً
٢٦
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً
٢٧
-الأحزاب

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: المظاهرة المعاونة وهي زيادة القوة بأن يكون المعاون ظهيراً لصاحبه في الدفع عنه والظهير المعين والصياصي الحصون التي يمتنع بها واحدتها صيصية يقال: جذ الله صيصية فلان أي حصنه الذي يمتنع به وكل ما امتنع به فهو صيصية ومنه يقال: لقرون البقر والظباء صياصي ويقال: أيضاً لشوكة الديك وشوكة الحايك صيصية قال:

كَوَقْعِ الصَّياصِي في النَّسِيجِ الممدَّدِ

المعنى: ثم ذكر سبحانه ما فعل باليهود من بني قريظة فقال: { وأنزل الذين ظاهروهم } أي عاونوا المشركين من الأحزاب ونقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ينصروا عليه عدوّاً من أهل الكتاب يعني من اليهود واتّفق المفسرون على أنهم بنو قريظة إلا الحسن فإنه قال هم بنو النضير والأول أصح وأليق بسياق الآيات لأن بني النضير لم يكن لهم في قتال أهل الأحزاب شيء وكانوا قد انجلوا قبل ذلك { من صياصيهم } أي من حصونهم: { وقذف في قلوبهم الرعب } أي القى في قلوبهم الخوف من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين { فريقاً تقتلون } منهم يعني الرجال { وتأسرون فريقاً } يعني الذراري والنساء.
{ وأورثكم أرضهم } أي وأعطاكم أرضهم { وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤوها } أي وأورثكم أرضاً لم تطؤوها بأقدامكم بعد وسيفتحها الله عليكم وهي خيبر فتحها الله عليهم بعد بني قريظة عن ابن زيد ويزيد بن رومان ومقاتل. وقيل: هي مكة عن قتادة. وقيل: هي الروم وفارس عن الحسن. وقيل: هي كل أرض تفتح إلى يوم القيامة عن عكرمة. وقيل: هي ما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب عن أبي مسلم { وكان الله على كل شيء قديراً } ظاهر المعنى.
القصة: روى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه قال:
" لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم مع المسلمين عن الخندق ووضع عنه اللأمة واغتسل واستحم تبدّى له جبرائيل (ع) فقال: عذيرك من محارب ألا أراك قد وضعت عنك اللاّمة وما وضعناها بعد فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً فعزم على الناس أن لا يصلّوا صلاة العصر حتى يأتوا قريظة فلبس الناس السلاح فلم يأتوا بنو قريظة حتى غربت الشمس واختصم الناس فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي قريظة فإنما نحن في عزمة رسول الله فليس علينا إثم وصلّى طائفة من الناس احتساباً وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس فصلّوها حين جاؤوا بني قريظة احتساباً فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين.
وذكر عروة أنه بعث علي بن أبي طالب (ع) على المقدم ودفع إليه اللواء وأمره أن ينطلق حتى يقف بهم على حصن بني قريظة ففعل وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على آثارهم فمّر على مجلس من الأنصار في بني غنم ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعموا أنه قال: مرَّ بكم الفارس آنفاً فقالوا مرَّ بنا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك بدحية ولكنَّه جبرائيل (ع) أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرعب قالوا وسار علي (ع) حتى إذا دنا من الحصن سمع منهم مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث قال: أظنّك سمعت لي منهم أذى فقال: نعم يا رسول الله فقال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال: يا إخوة القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولاً وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب.
وكان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت قريش وغطفان فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم. قال كعب بن أسد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيّها شئتم قالوا ما هنَّ قال نبايع هذا الرجل ونصدّقه فوالله لقد تبيَّن لكم أنه نبيٌّ مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دمائكم وأموالكم ونسائكم فقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره قال: فإذا أبيتم علي هذا فهلمّوا فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد رجالاً مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمّنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلاً يهمّنا وأن نظهر لنجدنّ النساء والأبناء.
فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير في العيش بعدهم قال: فإذا أبيتم علي هذه فإن الليلة ليلة السبت وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا فعلّنا نصيب منهم غرة فقالوا: نفسد سبتّنا ونحدث فيها ما أحدث من كان قبلنا فأصابهم ما قد علمت من المسخ فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألوه أن يحكم فيهم رجلاً: اختاروا من شئتم من أصحابي فاختاروا سعد بن معاذ فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلاحهم فجعل في قبته وأمر بهم فكتفوا وأوثقوا وجعلوا في دار أسامة وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ فجيء به فحكم فيهم بأن يقتل مقاتليهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم وتغنم أموالهم وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار وقال للأنصار: إنكم ذوو عقار وليس للمهاجرين عقار فكبَّر رسول الله. وقال لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل وفي بعض الروايات لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة "
وأرقعة جمع رقيع اسم سماء الدنيا فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاتليهم وكانوا فيما زعموا ستمائة مقاتل. وقيل: قتل منهم أربعمائة وخمسين رجلاً وسبى سبعمائة وخمسين.
وروي أنهم قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إرسالاً: يا كعب ما ترى يصنع بنا. فقال كعب: أفي كل موطن تقولون ألا ترون أن الداعي لا ينزع ومن يذهب منكم لا يرجع هو والله القتل وأتى بحيي بن أخطب عدوّ الله عليه حلّة فاختية قد شقَّها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما بصر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما والله ما لمت نفسي على عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل ثم قال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب الله وقدره ملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضرب عنقه ثم قسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وأبناءهم وأموالهم على المسلمين وبعث بسبايا منهم إلى نجد مع سعد بن زيد الأنصاري فابتاع بهم خيلاً وسلاحاً قالوا فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فرجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد وروي عن جابر بن عبد الله قال: جاء جبرائيل (ع) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات فتحت له أبواب السماء وتحرَّك له العرش فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سعد بن معاذ قد قبض.