التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ
١٠
أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١
وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ
١٢
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ
١٣
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ
١٤
-سبأ

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ يعقوب وعبيد بن عمير والأعرج { والطير } بالرفع وقرأ سائر القراء والطير بالنصب وقرأ أبو بكر { ولسليمان الريحُ } بالرفع والباقون بالنصب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو كالجوابي بالياء في الوصل إلا ابن كثير وقف بياء وأبو عمرو بغير ياء والباقون بغير ياء في الوصل والوقف وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وابن فليح وزيد عن يعقوب { منساته } بغير همز وقرأ ابن عامر { منسأته } بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مفتوحة وقرأ يعقوب تُبُيِّنَت الجن بضم التاء والباء وكسر الياء والباقون تَبَيَّنَت بفتح الجميع وفي الشواذ قراءة ابن عباس والضحاك تبينت الإنس وهو قراءة علي بن الحسين زين العابدين (ع) وأبي عبد الله (ع).
الحجة: قال الزجاج: أما الرفع في { والطير } ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون نسقاً على الياء في أوّبي المعنى يا جبال رجعي التسبيح أنت معه والطير والآخر: أن يكون معطوفاً على لفظ جبال التقدير يا جبال والطير وأما النصب ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون عطفاً على فضلاً أي آتينا داود منا فضلاً والطير بمعنى وسخرنا له الطير حكى ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء.
والثاني: أن يكون نصباً على النداء ويكون معطوفاً على محل جبال كأنه قال: أدعو الجبال والطير.
والثالث: أن يكون منصوباً على معنى مع والمعنى أوبي معه ومع الطير. قال أبو علي: من قرأ { ولسليمان الريحَ } بالنصب حمله على التسخير في قوله { فسخّرنا له الريح تجري بأمره } ويقوّي ذلك قوله
{ { ولسليمان الريح عاصفة } [الأنبياء: 81] ووجه الرفع أن الريح إذا سخرت لسليمان جاز أن يقال له: الريح على معنى له تسخير الريح فالرفع على هذا يؤول إلى معنى النصب لأن المصدر المقدر في تقدير الإضافة إلى المفعول به قال: والقياس في الجوابي أن يثبت الياء مع الألف واللام وإنما وقف أبو عمرو بغير ياء لأنه فاصلة أي مشبَّه بها من حيث تمَّ الكلام ومن حذف الياء في الوصل والوقف فلأن هذا النحو قد يحذف كثيراً والقياس في همزة { منسأته } إذا خفف الهمزة منها أن تجعل بين بين إلا أنهم خففوا همزتها على غير القياس قال الشاعر أنشده أبو الحسن:

إذا دَبَبْتَ عَلَى المِنْساةِ مِنْ هَرَمٍ فَقَدْ تَباعَدَ عَنْكَ اللَّهْوُ وَالْغَزَلُ

وأما قوله تبينت الإنس فمعناه { تبينت الإنس } أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب وهكذا هو في مصحف عبد الله ويؤول إلى هذا المعنى قراءة يعقوب تُبُيِّنت الجن.
اللغة: التأويب الترجيع بالتسبيح قال سلامة بن جندل:

يـَـوْمانِ يَوْمُ مَقاماتٍ وَأنْدِيَةٍ وَيَوْمُ سَيْرِ إلى الأعْداءِ تَأْوِيبِ

أي رجوع بعد رجوع والسابغ التام من اللباس وسرد الحديد نظمه. قال الشاعر:

عَلَى ابْنِ أبِي العاصِي دِلاصٌ حَصِينَةٌ أجــادَ الْمُسَـــدِّي سَــرْدَهـا وَأذَالَها

وقال أبو ذؤيب:

وَعَلَيْهِما مَسْرُودَتانِ قَضاهُما داوُدُ أوْ صَنَــعُ السَّـوَابِغِ تُبَّعُ

وهو مأخوذ من سرد الكلام يسرد سرداً إذا تابع بين بعض حروفه وبعض. قال المبرد: لا يسمى محراباً إلا ما يرتقى إليه بدرج قال عدي بن زيد:

كَدُمَى العاجِ فِي المَحاريبِ أوْ كَالْبيـ ــضِ فِـــي الرَّوْضِ زَهْــــرُهُ مُسْتَنِيرُ

وقال وضاح اليمن:

رَبَّـةَ مِحْـرابٍ إذا جِئْتُها لَمْ ألْقَها أوْ أرْتَقِي سُلَّما

والتماثيل صور الأشياء واحدها تمثال وأصلها من المثول وهو القيام كأنه نصب قائماً ومنه الحديث: "من سرَّه أن يمثل له الناس فليتبوء مقعده من النار" والجوابي جمع جابية وهي الْحوض العظيم يجبى فيه الماء قال الأعشى:

تَرُوحُ عَلى آلِ المُحَلَّقِ جَفْنَةٌ كَجابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِراقِيَّ تَفْهَقُ

والمنسأة العصا الكبيرة التي يسوق بها الراعي غنمه مفعلة من نسأت الناقة والبعير إذا زجرته.
الإعراب: { أن اعمل سابغات } أن ها هنا في تأويل التفسير والقول وهي تدعي المفسرة بمعنى أي كأنه قيل { وألنّا له الحديد } أي أعمل سابغات والتقدير قلنا له اعمل ويكون في معنى لأن يعمل وإنما تصل أن هذه بلفظ الأمر ومثله في الكلام أرسل إليه أن قم إلى فلان وقدر مفعوله محذوف أي قدر الحلق والمسامير وقوله { غدوّها شهر ورواحها شهر } في موضع نصب على الحال والتقدير غدوّها مسيرة شهر ورواحها كذلك فحذف المضاف والعامل في الحال معنى التسخير في قوله { ولسليمان الريح } ومن يعمل في موضع نصب على تقدير وسخرنا من الجن من يعمل.
{ شكراً } يجوز أن يكون مفعول اعملوا على تقدير اشكروا شكراً كما تقول أحمد الله شكراً فيكون مفعولاً مطلقاً وهو المصدر ويجوز أن يكون مفعولاً له ومفعول أعمل محذوف وتقديره اعملوا الطاعة شكراً وقوله { أن لو كانوا يعلمون الغيب } أن هذه مخففة من الثقيلة على تقدير أنهم لو كانوا يعلمون الغيب. قال أبو علي: والتقدير فلما خرَّ تبيَّن أمر الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب فحذف المضاف فإنَّ لو كانوا بدل من الجن ولفظ تبيَّن هنا لازم غير متعدٍّ مثله في قوله { وتبيَّن لكم كيف فعلنا بهم } وقوله { فلما تبيَّن له } قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير والمعنى فلما خرَّ انكشف للإنس أمر الجن من جهلهم بالغيب وذلك لأن الجن ما ادّعوا علم الغيب وإنما اعتقد الإنس فيهم أنهم يعلمون الغيب فأبطل الله عقيدتهم فيهم بموت سليمان.
المعنى: لمّا تقدَّم ذكر عباد الله المنيبين إليه وصله سبحانه بذكر داود وسليمان فقال { ولقد آتينا داود منا فضلاً } معناه ولقد أعطينا داود من عندنا نعمة وإحساناً أي فضَّلناه على غيره بما أعطيناه من النبوة والكتاب وفصل الخطاب والمعجزات.
ثم فصَّل سبحانه ما أعطاه فقال { يا جبال أوّبي معه والطير } أي قلنا للجبال يا جبال سبّحي معه إذا سبّح عن ابن عباس والحسن ومجاهد قالوا: أمر الله الجبال أن تسبّح معه إذا سبّح فسبحت معه وتأويله عند أهل اللغة رجعي معه التسبيح من آب يؤوب ويجوز أن يكون سبحانه فعل في الجبال ما يأتي به منها التسبيح معجزاً له وأما الطير فيجوز أن يسبّح ويحصل له من التمييز ما يتأتى منه ذلك بأن يزيد الله في فطنته فيفهم ذلك. وقيل: معناه سيري معه فكانت الجبال والطير تسير معه أينما سار وكان ذلك معجزاً له عن الجبائي والتأويب السير بالنهار. وقيل: معناه ارجعي إلى مراد داود فيما يريده من حفر بئر واستنباط عين واستخراج معدن ووضع طريق.
{ وألنّا له الحديد } فصار في يده كالشمع يعمل به ما شاء من غير أن يدخله النار ولا أن يضربه بالمطرقة عن قتادة.
{ أن اعمل سابغات } أي قلنا له اعمل من الحديد دروعاً تامات وإنما ألان الله تعالى الحديد لداود لأنه أحبَّ أن يأكل من كسب يده فألان الحديد له وعلَّمه صنعة الدرع وكان أول من اتَّخذها وكان يبيعها ويأكل من ثمنها ويطعم عياله ويتصدق منه وروي عن الصادق (ع) قال: إن الله أوحى إلى داود (ع) نعم العبد أنت إلا أنك تأكل من بيت المال فبكى داود أربعين صباحاً فألان الله له الحديد وكان يعمل كل يوم درعاً فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمائة وستين درعاً فباعها بثلاثمائة وستين ألفاً فاستغنى عن بيت المال.
{ وقدّر في السرد } أي عدل في نسج الدروع ومنه. قيل لصانعها سراد وزراد والمعنى لا تجعل المسامير دقاقاً فتفلق ولا غلاظاً فتكسر الحلق. وقيل: السرد المسامير التي في حلق الدروع عن قتادة حكي أن لقمان حضر داود عند أول درع عملها فجعل يتفكر فيها ولا يدري ما يريد ولم يسأله حتى فرغ منها ثم قام فلبسها وقال: نعم جنة الحرب هذه. فقال لقمان: عند ذلك الصمت حكمة وقليل فاعله.
{ واعملوا صالحاً } أي وقلنا اعمل أنت وأهلك الصالحات وهي الطاعات شكراً لله سبحانه على عظيم نعمه { إني بما تعملون بصير } أي أنا عالم بما تفعلونه لا يخفى عليَّ شيء من أعمالكم.
ثم ذكر سبحانه سليمان وما آتاه من الفضل والكرامة فقال { ولسليمان الريح } أي وسخرنا لسليمان الريح { غدوّها شهر ورواحها شهر } أي مسير غدو تلك الريح المسخرة له مسيرة شهر ومسير رواح تلك الريح مسيرة شهر والمعنى أنها كانت تسير في اليوم مسيرة شهرين للراكب. قال قتادة: كان يغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار ويروح مسيرة شهر إلى آخر النهار. وقال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر من أرض أصفهان وبينهما مسيرة شهر للمسرع ويروح من اصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر تحمله الريح مع جنوده أعطاه الله الريح بدلاً من الصافنات الجياد.
{ وأسلنا له عين القطر } أي أذبنا له عين النحاس وأظهرناها له قالوا: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن جعلها الله له كالماء وإنما يعمل الناس بما أعطي سليمان منه { ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه } المعنى وسخَّرنا له من الجن من يعمل له بحضرته وأمام عينه ما يأمرهم به من الأعمال كما يعمل الآدمي بين يدي الآدمي بأمر ربه تعالى وكان يكلّفهم الأعمال الشاقة مثل عمل الطين وغيره. وقال ابن عباس: سخَّرهم الله لسليمان وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به وفي هذا دلالة على أنه قد كان من الجن من هو غير مسخّر له.
{ ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير } المعنى ومن يعدل من هؤلاء الجن الذين سخَّرناهم لسليمان عما أمرناهم به من طاعة سليمان { نذقه من عذاب السعير } أي عذاب النار في الآخرة عن أكثر المفسرين وفي هذا دلالة على أنهم قد كانوا مكلفين. وقيل: معناه نذيقه العذاب في الدنيا وأن الله سبحانه وكَّل بهم ملكاً بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان ضربه ضربة أحرقته.
{ يعملون له ما يشاء من محاريب } وهي بيوت الشريعة. وقيل: هي القصور والمساجد يتعبد فيها عن قتادة والجبائي قال: وكان ممّا عملوه بيت المقدس وقد كان الله عزَّ وجل سلّط على بني إسرائيل الطاعون فهلك خلق كثير في يوم واحد فأمرهم داود أن يغتسلوا ويبرزوا إلى الصعيد بالذراري والأهلين ويتضرعون إلى الله لعله يرحمهم وذلك صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد.
وارتفع داود فوق الصخرة فخرَّ ساجداً يبتهل إلى الله سبحانه وسجدوا معه فلم يرفعوا رؤوسهم حتى كشف الله عنهم الطاعون فلما أن شفَّع الله داود في بني إسرائيل جمعهم داود بعد ثلاث وقال لهم: إن الله تعالى قد منَّ عليكم ورحمكم فجدِّدوا له شكراً بأن تتخذوا من هذا الصعيد الذي رحمكم فيه مسجداً ففعلوا وأخذوا في بناء بيت المقدس وكان داود ينقل الحجارة لهم على عاتقه وكذلك خيار بني إسرائيل حتى رفعوه قامة ولداود يومئذ سبع وعشرون ومائة سنة فأوحى الله إلى داود أن تمام بنائه يكون على يدي ابنه سليمان فلما صار داود ابن أربعين ومائة سنة توفاه الله واستخلف سليمان فأحبَّ إتمام بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسَّم عليهم الأعمال يخصَّ كل طائفة منهم بعمل فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض الصافي من معادنه وأمر ببناء المدينة من الرخام والصُفَّاح وجعلها اثني عشر رَبَضاً وأنزل كل ربض منها سبطاً من الأسباط.
ولما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجَّه الشياطين فرقاً فرقة يستخرجون الذهب واليواقيت من معادنها وفرقة يقلعون الجواهر والأحجار من أماكنها وفرقة ياتون بالمسك والعنبر وسائر الطيب وفرقة ياتون بالدر من البحار فأوتي من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله تعالى ثم أحضر الصناع وأمرهم بنحت تلك الأحجار حتى صيَّروها ألواحاً ومعالجة تلك الجواهر واللآلىء.
قال: وبنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المها الصافي وسقفه بألواح الجواهر وفضض سقوفه وحيطانه بالآلىء واليواقيت والجواهر وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر.
فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله تعالى واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزا بخت نصر بني إسرائيل فخرب المدينة وهدمها ونقض المسجد وأخذ ما في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر واليواقيت والجواهر فحملها إلى دار مملكته من أرض العراق.
قال سعيد بن المسيب: لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلقت أبوابه فعالجها سليمان فلم تنفتح حتى قال في دعائه بصلوات أبي داود إلا فتحت الأبواب ففتحت ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قراء بني إسرائيل خمسة آلاف بالليل وخمسة آلاف بالنهار فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلا ويعبد الله فيها.
{ وتماثيل } يعني صوراً من نحاس وشبه وزجاج ورخام كانت الجن تعملها ثم اختلفوا. فقال بعضهم: كانت صور للحيوانات. وقال آخرون: كانوا يعملون صور السباع والبهائم على كرسيه ليكون أهيب له فذكروا أنهم صوَّروا أسدين أسفل كرسيه ونسرين فوق عمودي كرسيه فكان إذا أراد أن يصعد الكرسي بسط الأسدان ذراعيهما وإذا علا على الكرسي نشر النسران أجنحتهما فظلَّلاه من الشمس ويقال إن ذلك كان مما لا يعرفه أحد من الناس فلما حاول بخت نصر صعود الكرسي بعد سليمان حين غلب على بني إسرائيل لم يعرف كيف كان يصعد سليمان فرفع الأسد ذراعيه فضرب ساقه فقدَّها فوقع مغشياً عليه فما جسر أحد بعده أن يصعد ذلك الكرسي.
قال الحسن: ولم تكن يومئذٍ التصاوير محرمة وهي محظورة في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه قال
"لعن الله المصوّرين" ويجوز أن يكره ذلك في زمن دون زمن وقد بيَّن الله سبحانه أن المسيح كان يصوّر بأمر الله من الطين كهيئة الطير. وقال ابن عباس: كانوا يعملون صور الأنبياء والعُبّاد في المساجد ليقتدى بهم وروي عن الصادق (ع) أنه قال: والله ما هي تماثيل النساء والرجال ولكنَّه الشجر وما أشبهه.
{ وجفان كالجواب } أي صحاف كالحياض التي يجبى فيها الماء أي يجمع وكان سليمان (ع) يصلح طعام جيشه في مثل هذه الجفان فإنه لم يمكنه أن يطعمهم في مثل قصاع الناس لكثرتهم. وقيل: إنه كان يجمع على كل جفنة ألف رجل يأكلون بين يديه.
{ وقدور راسيات } أي ثابتات لا يزلن عن أمكنتهن لعظمهن عن قتادة وكانت باليمن. وقيل: كانت عظيمة كالجبال يحملونها مع أنفسهم وكان سليمان يطعم جنده.
ثم نادى سبحانه آل داود وأمرهم بالشكر على ما أنعم به عليهم من هذه النعمة العجيبة لأن نعمته على سليمان نعمة عليهم فقال { اعملوا آل داود شكراً } أي قلنا لهم يا آل داود اعملوا بطاعة الله شكراً له على ما آتاكم من النعم عن مجاهد وفي هذا دلالة على وجوب شكر النعمة وأنّ الشكر طاعة المنعم وتعظيمه وفيه إشارة أيضاً إلى أن لقرابة أنبياء الله تعالى أثراً في القرب إلى رضى الله حين خصَّ آل داود بالأمر { وقليل من عبادي الشكور } والفرق بين الشكور والشاكر أن الشكور من تكرر منه الشكر والشاكر من وقع منه الشكر. قال ابن عباس: أراد به المؤمن الموحد وفي هذا دلالة على أن المؤمن الشاكر يقلُّ في كل عصر.
{ فلما قضينا عليه الموت } أي فلما حكمنا على سليمان بالموت. وقيل: معناه أوجبنا على سليمان الموت { ما دلَّهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته } أي ما دلَّ الجن على موته إلا الأرضة ولم يعلموا موته حتى أكلت عصاه فسقط فعلموا أنه ميت. وقيل: إن سليمان كان يعتكف في مسجد بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل وأكثر يدخل فيه طعامه وشرابه ويتعبّد فيه فلما كان في المرة التي مات فيها لم يكن يصبح يوماً إلا وتنبت شجرة كان يسألها سليمان فتخبره عن اسمها ونفعها وضرّها فرأى يوماً نبتاً فقال: ما اسمك قال: الخرنوب قال: لأيّ شيء أنت قال: للخراب فعلم أنه سيموت فقال: اللهم عمِّ على الجن موتي ليعلم الإنس أنهم لا يعلمون الغيب وكان قد بقي من بنائه سنة وقال لأهله: لا تخبروا الجن بموتي حتى يفرغوا من بنائه ودخل محرابه وقام متكئاً على عصاه فمات.
وبقي قائماً سنة وتمَّ البناء ثم سلَّط الله على منسأته الأرضة حتى أكلتها فخرَّ ميتاً فعرف الجن موته وكانوا يحسبونه حياً لما كانوا يشاهدون من طول قيامه قبل ذلك. وقيل: إن في إماتته قائماً وبقائه كذلك أغراضاً منها إتمام البناء ومنها أن يعلم الإنس أن الجن لا تعلم الغيب وأنهم في ادّعاء ذلك كاذبون ومنها أن يعلم أن من حضر أجله فلا يتأخر إذ لم يؤخر سليمان مع جلالته.
وروي أنه أطلعه الله سبحانه على حضور وفاته فاغتسل وتحنط وتكفن والجن في عملهم.
وروى أبو بصير عن أبي جعفر (ع) قال: إن سليمان أمر الشياطين فعملوا له قبة من قوارير فبينا هو قائم متكىء على عصاه في القبة ينظر إلى الجن كيف يعملون وهم ينظرون إليه ولا يصلون إليه إذا رجل معه في القبة فقال: من أنت فقال: أنا الذي لا أقبل الرشى ولا أهاب الملوك فقبضه وهو قائم متكىء على عصاه في القبة قال: فمكثوا سنة يعملون له حتى بعث الله الأرضة فأكلت منسأته وفي حديث آخر عن أبي عبد الله (ع) قال: فكان آصف يدبّر أمره حتى دبَّت الأرضة.
{ فلما خرَّ } أي سقط سليمان ميتاً { تبينت الجن } أي ظهرت الجن فانكشف للناس { أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } معناه في الأعمال الشاقة وإنما سمّاها عذاباً للمشاق التي فيها لا أنه كان عذاباً فليس ذلك إلا أن يكون عبادة له أو بمنزلة ما يعوضون عليه أي ما عملوا مسخرين لسليمان وهو ميت وهم يظنون أنه حيّ.
وقيل: إن المعنى تبينت عامة الجن وضعفتهم أن رؤساءهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يوهمونهم أنهم يعلمون الغيب. وقيل: معناه تبينت الإنس أن الجن كانوا لا يعلمون الغيب فإنهم كانوا يوهمون الإنس أنا نعلم الغيب وإنما قال: تبينت الجن كما يقول من يناظر غيره ويلزمه الحجة هل تبين لك أنك على باطل وعلى هذا تدل قراءة من قرأ تبينت الإنس وقد مضى بيانه وذكر أهل التاريخ أن عمر سليمان كان ثلاثاً وخمسين سنة مدة ملكه منها أربعون سنة وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه والله أعلم وأما الوجه في عمل الجن تلك الأعمال العظيمة فهو أن الله تعالى زاد في أجسامهم وقوتهم وغيَّر خلقهم عن خلق الجن الذين لا يرون للطافتهم ورقة أجسامهم على سبيل الإعجاز الدال على نبوة سليمان فكانوا بمنزلة الأسراء في يده وكانوا تتهيّأ لهم الأعمال التي كان يكلّفها إياهم ثم لما مات (ع) جعل الله خلقهم على ما كانوا عليه فلا يتهيأ لهم في هذا الزمان شيء من ذلك.