التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ
١١
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ
١٢
وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا ٱلْمُرْسَلُونَ
١٣
إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ
١٤
قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ
١٥
قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ
١٦
وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
١٧
قَالُوۤاْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٨
قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ
١٩
وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢٠
-يس

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أبو بكر { فعززنا } بالتخفيف والباقون بتشديد الزاي وقرأ أبو عمرو وقالون عن نافع وزيد عن يعقوب أن ذكرتم بهمزة واحدة غير ممدودة وقرأ ابن كثير ويعقوب ونافع آن ذكرتم بهمزة واحدة ممدودة وقرأَ أبو جعفر أئن بهمزة واحدة مطولة والثانية ملينة مفتوحة ذكرتم مخففة والباقون أئن ذكرتم بهمزتين.
الحجة: قال أبو علي: قال بعضهم عزَّزنا قوينا وكثرنا وأما عززنا فغلبنا من قوله تعالى
{ وعزني في الخطاب } [ص: 23] وقوله { ءإن ذكرتم } فإنما هي أن الجزاء دخلت عليها ألف الاستفهام والمعنى { ءإن ذكرتم } تشاءمتم فحذف الجواب لأن تطيرنا بكم تشاءمنا بكم وأَصل تطيرنا تفعلنا من الطائر عند العرب الذي به يتشاءمون ويتيمنون ومن قرأ أن ذكرتم بفتح أن فالمعنى لأن ذكرتم تشاءمتم وأما تخفيف الهمزة وتحقيقها فقد تقدَّم ذكرهما في مواضع.
الإعراب: { وكل شيء } منصوب بفعل مضمر يفسّره هذا الظاهر الذي هو أحصيناه والتقدير أحصينا { وكل شيء أحصيناه } أصحاب القرية بدلاً من مثلاً. { إذ جاءها المرسلون } العامل في إذ محذوف تقديره قصة أصحاب القرية كائنة { إذ جاءها المرسلون } وإذ أرسلنا بدلاً من الأول.
المعنى: لمّا أخبر سبحانه عن أولئك الكفار أنهم لا يؤمنون وأنهم سواء عليهم الإنذار وترك الإنذار عقبه بذكر حال من ينتفع بالإنذار فقال { إنما تنذر من اتبع الذكر } والمعنى إنما ينتفع بإنذارك وتخويفك من اتبع القرآن لأن نفس الإنذار قد حصل للجميع { وخشي الرحمن بالغيب } أي في حال غيبته عن الناس بخلاف المنافق. وقيل: معناه وخشي الرحمن فيما غاب عنه من أمر الآخرة { فبشّره } أي فبشّرنا محمد من هذه صفته { بمغفرة } من الله لذنوبه { وأجر كريم } أي ثواب خالص من الشوائب.
ثم أخبر سبحانه عن نفسه فقال { إنا نحن نحيي الموتى } في القيامة للجزاء { ونكتب ما قدموا } من طاعتهم ومعاصيهم في دار الدنيا عن مجاهد وقتادة. وقيل: نكتب ما قدَّموه من عمل ليس له أثر { وآثارهم } أي ما يكون له أثر عن الجبائي. وقيل: يعني بآثارهم أعمالهم التي صارت سنَّة بعدهم يقتدى فيها بهم حسنة كانت أم قبيحة. وقيل: معناه ونكتب خطاهم إلى المسجد وسبب ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري أن بني سلمة كانوا في ناحية المدينة فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد والصلاة معه فنزلت الآية وفي الحديث عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم" رواه البخاري ومسلم في الصحيح { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } أي وأحصينا وعدَّدنا كل شيء من الحوادث في كتاب ظاهر وهو اللوح المحفوظ والوجه في إحصاء ذلك فيه اعتبار الملائكة به إذ قابلوا به ما يحدث من الأمور ويكون فيه دلالة على معلومات الله سبحانه على التفصيل. وقيل: أراد به صحائف الأعمال وسمي ذلك مبيناً لأنه لا يدرس أثره عن الحسن.
ثم قال سبحانه لنبيّه صلى الله عليه وسلم { واضرب لهم } يا محمد { مثلاً } أي مثّل لهم مثالاً وهو من قولهم هؤلاء أضراب أي أمثال. وقيل: معناه واذكر لهم مثلاً { أصحاب القرية } وهذه القرية أنطاكية في قول المفسرين { إذ جاءها المرسلون } أي حين بعث الله إليهم المرسلين { إذ أرسلنا إليهم اثنين } أي رسولين من رسلنا { فكذَّبوهما } أي فكذَّبوا الرسولين قال ابن عباس: ضربوهما وسجنوهما { فعززنا بثالث } أي فقوّيناهما وشددنا ظهورهما برسول ثالث مأخوذ من العزة وهي القوة والمنعة ومنه قولهم من عزَّ بزَّ أي من غلب سلب. قال شعبة: كان اسم الرسولين شمعون ويوحنا واسم الثالث بولس. وقال ابن عباس وكعب: صادق وصدوق والثالث سلوم. وقيل: إنهم رسل عيسى وهم الحواريون. عن وهب وكعب قالا: وإنما أضافهم تعالى إلى نفسه لأن عيسى (ع) أرسلهم بأمره { فقالوا إنا إليكم مرسلون } أي قالوا لهم يا أهل القرية إن الله أرسلنا إليكم.
{ قالوا } يعني أهل القرية { ما أنتم إلا بشر مثلنا } فلا تصلحون للرسالة كما لا نصلح نحن لها { وما أنزل الرحمن من شيء } تدعوننا إليه { إن أنتم إلا تكذبون } أي ما أنتم إلا كاذبون فيما تزعمون اعتقدوا أن من كان مثلهم في البشر لا يصلح أن يكون رسولاً وذهب عليهم أن الله عز اسمه يختار من يشاء لرسالته وأنه علم من حال هؤلاء صلاحهم للرسالة وتحمّل أعبائها.
{ قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون } وإنما قالوا ذلك بعد ما قامت الحجة بظهور المعجزة فلم يقبلوها ووجه الاحتجاج بهذا القول أنهم ألزموهم بذلك النظر في معجزاتهم ليعلموا أنهم صادقون على الله ففي ذلك تحذير شديد { وما علينا إلا البلاغ المبين } أي وليس يلزمنا إلا أداء الرسالة والتبليغ الظاهر. وقيل: معناه وليس علينا أن نحملكم على الإيمان فإنا لا نقدر عليه.
{ قالوا } أي قال هؤلاء الكفار في جواب الرسل حين عجزوا عن إيراد شبهة وعدلوا عن النظر في المعجزة { إنا تطيرنا بكم } أي تشاءمنا بكم { لئن لم تنتهوا } عما تدعونه من الرسالة { لنرجمنكم } بالحجارة عن قتادة. وقيل: معناه لنشتمنكم عن مجاهد { وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا } يعني الرسل { طائركم معكم } أي الشؤم كله معكم بإقامتكم على الكفر بالله تعالى فأما الدعاء إلى التوحيد وعبادة الله تعالى ففيه غاية البركة والخير واليمن ولا شيء فيه. وقيل: معنى طائركم حظّكم ونصيبكم من الخير والشر عن أبي عبيدة والمبرد { أئن ذكرتم } أي إن ذكرتم قلتم هذا القول. وقيل: معناه إن ذكرناكم هددتمونا وهو مثل الأول. وقيل: معناه إن تدبّرتم عرفتم صحة ما قلناه لكم { بل أنتم قوم مسرفون } معناه ليس فينا ما يوجب التشاؤم بنا ولكنكم متجاوزون عن الحد في التكذيب للرسل والمعصية والإسراف الإفساد ومجاوزة الحد والسرف الفساد قال طرفة:

إنَّ امْرَءاً سَرِف الْفُؤادَ يَرى عَسَلاً بِماءٍ سَحابَةً شَتْمي

أي فاسد القلب { وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى } وكان اسمه حبيب النجار عن ابن عباس وجماعة من المفسرين وكان قد آمن بالرسل عند ورودهم القرية وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة فلما بلغه أن قومه قد كذّبوا الرسل وهمُّوا بقتلهم جاء يعدو ويشتدّ { قال يا قوم اتبعوا المرسلين } الذين أرسلهم الله إليكم وأقرّوا برسالتهم قالوا: وإنما علم هو بنبوتهم لأنهم لما دعوه قال: أتأخذون على ذلك أجراً قالوا لا. وقيل: إنه كان به زمانة أو جذام فأبرؤوه فآمن بهم عن ابن عباس.
القصة: قالوا: بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له وهو حبيب صاحب يس فسلَّما عليه فقال الشيخ لهما من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال: أمعكما آية. قالا: نعم نحن نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله فقال الشيخ: إن لي ابناً مريضاً صاحب فراش منذ سنين قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نتطلع حاله فذهب بهما فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحاً ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على أيديهما كثيراً من المرضى.
وكان لهم ملك يعبد الأصنام فأنهي الخبر إليه فدعاهما. فقال لهما: من أنتما. قالا: رسولا عيسى جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر. فقال الملك: ولنا إله سوى آلهتنا قالا: نعم من أوجدك وآلهتك. قال: قوما حتى انظر في أمركما فأخذهما الناس في السوق وضربوهما وقال وهب بن منبه بعث عيسى هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى ملكها وطالت مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبّرا وذكر الله فغضب الملك وأمر بحبسهما وجلد كل واحد منهما مئة جلدة.
فلما كذب الرسولان وضربا بعث عيسى شمعون الصفا رأس الحواريين على أثرهما لينصرهما فدخل شمعون البلدة متنكراً فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه ورضي عشرته وأنس به وأكرمه ثم قال له ذات يوم: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما. قال الملك: حال الغضب بيني وبين ذلك قال: فإن رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون من أرسلكما إلى ها هنا قالا: الله الذي خلق كل شيء لا شريك له. قال: وما آيتكما. قالا: ما تتمناه فأمر الملك حتى جاؤوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان الله حتى انشق موضع البصر فأخذا بندقتين من الطين فوضعا في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك.
فقال شمعون للملك أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع صنيعاً مثل هذا فيكون لك ولإلهك شرفاً. فقال الملك: ليس لي عنك سّراً إن إلهنا الذي نعبده لا يضرّ ولا ينفع ثم قال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنّا به وبكما قالا إن ربّنا قادر على كل شيء. فقال الملك: إن ها هنا ميتاً منذ سبعة أيام لم ندفنه حتى يرجع أبوه وكان غائباً فجاؤوا بالميت وقد تغيّر وأروح فجعلا يدعوان ربهما علانية وجعل شمعون يدعو ربه سّراً فقام الميت وقال لهم: إني قد متُ منذ سبعة أيام وأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله فتعجب الملك.
فلما علم شمعون أن قوله أثّر في الملك دعاه إلى الله فآمن وآمن من أهل مملكته قوم وكفر آخرون.
وقد روى مثل ذلك العياشي بإسناده عن الثمالي وغيره عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) إلا أن في بعض الروايات بعث الله الرسولين إلى أهل أنطاكية ثم بعث الثالث وفي بعضها أن عيسى أوحى الله إليه أن يبعثهما شمعون ثم بعث وصيّه شمعون ليخلصهما وإن الميت الذي أحياه الله تعالى بدعائهما كان ابن الملك وأنه قد خرج من قبره ينفض التراب عن رأسه فقال له: يا بني ما حالك؟ قال: كنت ميتاً فرأَيت رجلين ساجدين يسألان الله تعالى أن يحييني قال: يا بني فتعرفهما إذا رأيتهما. قال: نعم فأخرج الناس إلى الصحراء فكان يمرُّ عليه رجل بعد رجل فمرَّ أحدهما بعد جمع كثير فقال: هذا أحدهما ثم مرَّ الآخر فعرفهما وأشار بيده إليهما فآمن الملك وأهل مملكته وقال ابن إسحاق بل كفر الملك وأجمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيباً وهو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة الرسل.