التفاسير

< >
عرض

صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ
١
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ
٢
كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ
٣
وَعَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ
٤
أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ
٥

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: في الشواذ قراءة أبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق صاد بكسر الدال وقراءة الثقفي صاد بفتح الدال والقراءة بالوقف وهو الصحيح لأن حروف الهجاء يوقف عليها وقراءة عيسى بن عمر وأبي عبد الرحمن السلمي عجاب بتشديد الجيم.
الحجة: من كسر فلاجتماع الساكنين أو لأنه جعله من المصاداة وهي المعارضة أي عارض القرآن بعملك ومن فتح فلأن الفتحة أخف من الكسرة ويجوز أن يكون من فتح جعل الصاد علماً للسورة فلم يصرفه والعجاب بالتشديد هو المفرط في العجب. يقال: شيء عجيب ثم عجاب بالتخفيف ثم عجاب بالتشديد كما قالوا رجل وضي ووضاء وأنشدوا:

وَالْمَـرْءُ يُلْحِقُهُ بِفِتْيانِ النَّدى خُلقُ الْكَرِيم وَلَيْسَ بِالوُضّاءِ

وقال آخر:

جاؤُوا بِصَيدٍ عَجَبٍ مِنَ الْعَجَبْ أُزَيْــرِق الْعَيْنَيْـنِ طُوَّالِ الذَّنَبْ

اللغة: الشقاق والمشاقة الخلاف وأصله أن يصير كل واحد من الفريقين في شق أي في جانب ومنه يقال: شق فلان العصا إذا خالف والمناص من النوص وهو التأخر ناص ينوص إذا تأخر وباص يبوص بالباء إذا تقدَّم قال امرؤ القيس:

أَمِنْ ذِكْرِ لَيْلى إنْ نَأَتكَ تَنُوصُ فَتُقْصِـرُ عَنْها خَطْوَةً وَتَبُوصُ

الإعراب: اختلف في جواب القسم على وجوه:
أحدها: أن جوابه محذوف فكأنه قال { والقرآن ذي الذكر } لقد جاء الحق وظهر الأمر لأن حذف الجواب في مثل هذا أبلغ فإن ذكر الجواب يقصر المعنى على وجه والحذف يصرف إلى كل وجه فيعمّ.
والثاني: أن جوابه ص فإن معناه صدق أقسم سبحانه بالقرآن أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد صدق والله وفعل والله والثالث: أن الجواب مما كفى منه قوله { كم أهلكنا }. وقيل: ما كفى منه بل الذين كفروا فكأنه قال { والقرآن ذي الذكر } ما الأمر كما قالوا وأحدهما عن الفراء والآخر عن قتادة.
والرابع: أن جوابه { كم أهلكنا } والتقدير لكم أهلكنا فلما طال الكلام حذف اللام ومثله
{ { قد أفلح من زكّاها } [الشمس: 9] والتقدير لقد أفلح عن الفراء وهذا غلط لأن اللام لا تدخل على المفعول وكم مفعول.
والخامس: أن الجواب في آخر السورة أن ذلك لحقّ تخاصم أهل النار إلا أنه بعد من أول الكلام عن الكسائي { ولات حين مناص } فيه قولان:
أحدهما: أن التاء متصلة بلا وأنهما بمنزلة ليس قال الزجاج: ويجوز ولات حين مناص في اللغة فأما النصب فعلى أن المعنى ليس الوقت حين مناص والرفع على أن يجعل حين اسم ليس ويضمر الخبر والمعنى ليس حين ملجأ لنا والوقف عليها لات بالتاء والكسائي يقف بالهاء لاه والأول أصح لأن هذه التاء نظيرة التاء في الفعل نحو ذهبت وفي الحرف نحو رأيت زيداً ثمت عمراً فإنها دخلت في الموضعين على ما لا يعرف ولا هو في طريق الأسماء. وقال الأخفش: أن لات حين مثل لا رجل في الدار ودخلت التاء في التأنيث قال الشاعر:

تَذَكـَّـرْ حُــبَّ لَيْـلى لاتَ حِينـا وَأَضْحَى الشَّيْبُ قَدْ قَطَعَ الْقَرِينا

والقول الآخر: أن التاء متصلة بحين كما قال الشاعر:

العاطِفِيــنَ تَحِين ما مِنْ عاطِفٍ وَالْمُطْعِمِينَ زَمانَ ما مِنْ مُطْعِمِ

وقد أجازوا الجرّ بلات وأنشدوا لأبي زبيد:

طَلَبُوا صُلْحَنا وَلاتَ أَوانٍ فَـأَجَبْنا أَنْ لَـيْسَ حِينُ بَقاءِ

قال الزجاج: والذي أنشدناه أبو العباس المبرد بالرفع وقد روي بالكسر.
النزول: قال المفسرون:
"أن أشراف قريش وهم خمسة وعشرون منهم الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم وأبو جهل وأبيّ وأمية ابنا خلف وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والنضر بن الحارث أَتوا أبا طالب وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك فإنه سفه أحلامنا وشتم آلهتنا فدعا أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك. فقال: ماذا يسألونني قالوا: دعنا وآلهتنا ندعك وإلهك فقال صلى الله عليه وسلم أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم فقال أبو جهل: لله أبوك نعطيك ذلك عشر أمثالها فقال: قولوا لا إله إلا الله فقاموا وقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً فنزلت هذه الآيات وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعبر ثم قال: يا عم والله لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو أقتل دونه فقال له أبو طالب امض لأمرك فوالله لا أخذلك أبداً" .
المعنى: { ص } اختلفوا في معناه فقيل هو اسم للسورة. وقيل: غير ذلك على ما ذكرناه في أول البقرة. وقال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله تعالى أقسم به وروي ذلك عن الصادق (ع). وقال الضحاك: معناه صدق. وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن فعلى هذا يجوز أن يكون موضعه نصباً على تقدير حذف حرف القسم ويجوز أن يكون رفعاً على تقدير هذه صاد في مذهب من جعله اسماً للسورة { والقرآن ذي الذكر } أي ذي الشرف عن ابن عباس يوضحه قوله { { وإنه لذكر لك ولقومك } [الزخرف: 44]. وقيل: معناه ذي البيان الذي يؤدّي إلى الحق ويهدي إلى الرشد لاْن فيه ذكر الأدلة التي إذا تفكَّر فيها العاقل عرف الحق عقلاً وشرعاً. وقيل: ذي التذكر لكم عن قتادة. وقيل: فيه ذكر الله وتوحيده وأسماؤه الحسنى وصفاته العلى وذكر الأنبياء وأخبار الأمم وذكر البعث والنشور وذكر الأحكام وما يحتاج إليه المكلف من الأحكام عن الجبائي ويؤيّده قوله { ما فرطنا في الكتاب من شيء } [الأنعام: 38].
{ بل الذين كفروا } من أهل مكة { في عزة } أي في تكبّر عن قبول الحق وحمية جاهلية عن قتادة ويدلّ عليه قوله
{ { أخذته العزة بالإثم } [البقرة: 206]. وقيل: في ملكة واقتدار وقوة بتمكين الله إياهم { وشقاق } أي عداوة وعصيان ومخالفة لأنهم يأنفون عن متابعتك ويطلبون مخالفتك.
ثم خوَّفهم سبحانه فقال { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } بتكذيبهم الرسل { فنادوا } عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة { ولات حين مناص } أي ليس الوقت حين منجى ولا فوت. وقيل: لات حين نداء ينجي قال قتادة نادى القوم على غير حين النداء { وعجبوا أن جاءهم منذر منهم } أي جاءهم رسول من أنفسهم مخوّف من جهة الله تعالى يحذرهم المعاصي وينذرهم النار.
{ وقال الكافرون هذا ساحر كذاب } حين يزعم أنه رسول الله { أجعل الآلهة إلهاً واحداً } هذا استفهام إنكار وتعجيب وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل عبادة ما كانوا يعبدونه من الآلهة مع الله ودعاهم إلى عبادة الله وحده فتعجبوا من ذلك وقالوا كيف جعل لنا إلهاً واحداً بعد ما كنا نعبد آلهة { إن هذا } الذي يقوله محمد من أنَّ الإله واحد { لشيء عجاب } لأمر عجيب مفرط في العجب.