التفاسير

< >
عرض

وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
١٠
-النساء

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم سيُصلون بضمّ الياء والباقون بفتحها.
الحجة: قال أبو علي حجة من فتح الياء قولـه اصلوها فاصبروا و جهنم يصلونها و
{ إلاَّ من هو صال الجحيم } [الصافات: 163] وحجة من ضمّ الياء أنه من أصلاه الله النار كقولـه: { { فسوف نصليه ناراً } [النساء: 30].
اللغة: ضعاف جمع ضعيف وضعيفة والسديد السليم من خلل الفساد وأصله من سد الخلل تقول: سددته أسده سداً والسداد الصواب وفيهم سِداد من عَوَزٍ بالكسر وسدد السهم إذا قوَّمه، والسَدُّ. الردم، وصلى لرجل النار يصليها صَلّى وصَلاء وصَلْياً أي لزمها وأصلاه الله إصلاء وهو صال النار من قوم صُليِّ وصالين. ويقال: صَلِيَ الأمر إذا قاسى حرّه وشدته قال العجاج:

وَصالِياتٍ لِلصَّلَى صِلِيُّ

وقال الفرزدق:

وَقَاتَلَ كلْبُ الحَيّ عَنْ نارِ أَهْلِهِ لَيَرْبِضَ فِيها وَالْصَّلا مُتَكَنِّفُ

وشاة مصليَّة أي مشوية وسعير بمعنى مسعورة مثل كفّ خضيب والسعر اشتعال النار واستعرت النار في الحطب ومنه سعر السوق لاستعارها به في النفاق.
الإعراب: ظلماً نصبه على المصدر لأن معنى قولـه { يأكلون أموال اليتامى } يظلمونهم ويجوز أن يكون في موضع الحال كقولـهم جاءني فلان ركض أي يركض.
المعنى: لما أمر الله تعالى بالقول المعروف ونهاهم عن خلافه أمر بالأقوال السديدة والأفعال الحميدة فقال: { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً } فيه أقوال:
أحدها: أنه كان الرجل إذا حضرته الوفاة، قعد عنده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: انظر لنفسك فإن ولدك لا يغنون عنك من الله شيئاً، فيقدم جُلَّ ماله، فقال: وليخش الذين لو تركوا من بعدهم أولاداً صغاراً { خافوا عليهم } الفقر وهذا نهي عن الوصية بما يجحف بالورثة وأمر لمن حضر الميت عند الوصية أن يأمره بأن يبقي لورثته ولا يزيد وصيته على الثلث كما أن هذا القائل لو كان هو الموصي لأحب أن يحثَّه من حضره على حفظ ماله لورثته ولا يدعهم عالة أي كما تحبّون ورثتكم فأحبّوا ورثة غيركم وهذا معنى قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك.
وثانيها: أن الأمر في الآية لوليّ مال اليتيم يأمره بأداء الأمانة فيه والقيام بحفظه كما لو خاف على مخلفيه إذا كانوا ضعافاً وأحب أن يفعل بهم عن ابن عباس أيضاً فيكون معناه من كان في حجره يتيم فليفعل به ما يحبُّ أن يفعلْ بذريته من بعده وإلى هذا المعنى يؤول ما روي عن موسى بن جعفر قال: إن الله أوعد في مال اليتيم عقوبتين ثنتين أما أحديهما: فعقوبة الدنيا قولـه: { وليخش الذين لو تركوا } الآية قال: يعني بذلك ليخش أن أخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى.
وثالثها: أنها وردت في حرمان ذوي القربى أن يوصي لهم بأن يقول الحاضر لا توص لأقاربك، ووقِّر على ورثتك.
وقولـه: { خافوا عليهم } معناه خافوا من جفاء يلحقهم أو ظلم يصيبهم أو غضاضة أو ضعة { فليتقوا الله } أي فليتق كل واحد من هؤلاء في يتامى غيره أن يجفوهم ويظلمهم وليعاملهم بما يحب أن يعامل به يتاماه بعد موته وقيل فليتقوا الله في الإضرار بالمؤمنين: { وليقولوا قولاً سديداً } أي مصيباً عدلاً موافقاً للشرع والحق. وقيل: إنه يريد قولاً لا خلل فيه، وقيل: معناه فليخاطبوا اليتامى بخطاب حسن وقول جميل وفي معنى الآية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" "من سرَّه أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فليأته منيَّتُه وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويحب أن يأتي إلى الناس ما يحبُّ أن يؤتى إليه ونهى رسول الله أن يوصي بأكثر من الثلث. وقال: والثلث كثير وقال لسعد: لأن تدع ورثتك أغنياء أحب إليّ من أن تدعهم عالة يتكففون الناس"
". ثم أوعد الله آكلي مال اليتيم نار جهنم وقال: { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } أي: ينتفعون بأموال اليتامى ويأخذونها ظلماً بغير حق، ولم يرد به قصر الحكم على الأكل الذي هو عبارة عن المضغ والابتلاع وفائدة تخصيص الأكل بالذكر أنه معظم منافع المال المقصودة فذكره الله تنبيهاً على ما في معناه من وجوه الانتفاع وكذلك معنى قولـه: { { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تأكلوا الربى } [النساء: 29] وإنما علَّق الوعيد بكونه ظلماً لأنه قد يأكله الإنسان على وجه الاستحقاق بأن يأخذ منه أجرة المثل أو يأكل منه بالمعروف أو يأخذه قرضاً على نفسه على ما تقدم القول في ذلك فلا يكون ظلماً فإن قيل: إذا أخذه قرضاً أو أجرة المثل فإنما أكل مال نفسه ولم يأكل مال اليتيم فجوابه لا بل يكون آكلاً مال اليتيم لكن لا على وجه يكون ظلماً بأن ألزم عوضه على نفسه أو استحقه بالعمل ولو سلمنا ذلك لجاز أن يكون إنما ذكر كونه ظلماً لضرب من التأكيد والبيان لأن أكل مال اليتيم لا يكون إلا ظلماً، وسئل الرضا كم أدنى ما يدخل به آكل مال اليتيم تحت الوعيد في هذه الآية؟ فقال: قليله وكثيره واحد إذا كان من نيّته أن لا يرده إليهم.
وقولـه { إنما يأكلون في بطونهم ناراً } قيل فيه وجهان:
أحدهما: أن النار ستلتهب من أفواههم وأسماعهم وآنافهم يوم القيامة ليعلم أهل الموقف أنهم أكلة أموال اليتامى عن السدي وروي عن الباقر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يبعث ناس من قبورهم يوم القيامة تأَجَّج أَفواههم ناراً" فقيل له يا رسول الله من هؤلاء فقرأ هذه الآية.
والآخر: أنه ذكر ذلك على وجه المثل من حيث إن من فعل ذلك يصير إلى جهنم فتمتلئ بالنار أجوافهم عقاباً على أكلهم مال اليتيم كما قال الشاعر:

وَإنَّ الَّذِي أَصْبَحْتُم تَحْلِبُونَـــهُ دَمٌ غَيْرَ أَنَّ اللَّوْنَ لَيْسَ بِأَحْمَرا

يصف أقواماً أخذوا الإبل في الدية يقول إنما تحلبون دم القتيل منها لا الألبان { وسيصلون سعيراً } أي سيلزمون النار المسعَّرة للإحراق وإنما ذكر البطون تأكيداً كما يقال نظرت بعيني، وقلت بلساني، وأخذت بيدي، ومشيت برجلي. وروى الحلبي عن الصادق (ع) قال: إن في كتاب علي بن أبي طالب أن من أكل مال اليتيم ظلماً سيدركه وبال ذلك في عقبه من بعده ويلحقه وبال ذلك في الآخرة أما في الدنيا فإن الله يقول: { وليخش الذين لو تركوا } وأما في الآخرة فإن الله يقول: { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً }.