التفاسير

< >
عرض

يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
١١
-النساء

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل المدينة وإن كانت واحدة بالرفع والباقون بالنصب وقرأ حمزة والكسائي فَلأمِّه وفي إمِّها ونحوه بكسر الهمزة والميم وحمزة بطون إمهاتكم وبيوت إمهاتكم بكسرهما والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم والباقون بضم الهمزة في الجميع وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو بكر عن عاصم يوصى بفتح الصاد في الموضعين وقرأ حفص الأولى بكسر الصاد والثانية بالفتح والباقون بكسرهما.
الحجة: الاختيار في واحدة النصب لأن التي قبلها لها خبر منصوب وهو قولـه: { فإن كن نساء } أي وإن كانت الورثة واحدة ووجه الرفع إن وقعت واحدة أوجدت واحدة أي إن حدث حكم واحدة لأن المراد حكمها لا ذاتها ووجه قراءة حمزة والكسائي فلإمّه بكسر الهمزة إن الهمزة حرف مستثقل بدلالة تخفيفهم لها فأتبعوها ما قبلها من الكسرة والياء ليكون العمل فيها من وجه واحد ويقوي ذلك أنها تقارب الهاء وقد فعلوا ذلك بالهاء في نحو عليه وبه ومن قرأ يوصي فلأن ذكر الميت قد تقدم في قولـه: { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } ومن قرأ يوصى فإنما يحسنه أنه ليس بميت معين إنما هو شائع في الجميع فهو في المعنى يؤول إلى يوصي.
الإعراب: للذكر مثل حظ الأنثيين جملة من مبتدأ وخبر تفسير لقولـه: { يوصيكم الله } وإنما لم يقل للذكر مثل حظ الأنثيين بنصب لام مثل فيعدي قولـه: { يوصيكم الله } لأنه في تقرير القول في حكاية الجملة بعده فكأنه قال: قال الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، وقولـه: الثُلُث والسُدُس والرُبُع ونحوها يجوز فيها التخفيف لثقل الضم. فيقال: ثُلْث وسُدْس ورُبْع وثُمْن. قال الزجاج: ومن زعم أن الأصل التخفيف فيها فثقل، فَخَطَأ، لأن الكلام موضوع على الإيجاز لا على التثقيل وإنما قيل للأب والأم أبوان تغليباً للفظ الأب ولا يلزم أن يقال في ابن وابنة ابنان لأنه يوهم فإن لم يوهم جاز ذلك ذكره الزجاج وفريضة منصوب على التأكيد والحال من قولـه: { لأبويه } ولهؤلاء الورثة ما ذكرنا مفروضاً ففريضة مؤكدة لقولـه: { يوصيكم الله } ويجوز أن يكون نصباً على المصدر من يوصيكم الله لأن معناه يفرض عليكم فريضة.
النزول: روى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أنه قال: مرضت فعادني رسول الله وأبو بكر وهما يمشيان فأُغمي عليّ، فدعا بماء، فتوضأ، ثم صبّه عليّ فأفقت فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟ فسكت رسول الله فنزلت آية المواريث فيّ، وقيل: نزلت في عبد الرحمن أخي حسان الشاعر وذلك أنه مات وترك امرأة وخمسة إخوان فجاءت الورثة فأخذوا ماله ولم يعطوا امرأَته شيئاً فشكت ذلك إلى رسول الله فأَنزل الله آية المواريث عن السدي. وقيل: كانت المواريث للأولاد، وكانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ الله ذلك وأنزل آية المواريث فقال رسول الله:
"إن الله لم يرض بملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسم التركات وأعطى كل ذي حق حقه " عن ابن عباس.
المعنى: ثمَّ بيَّن تعالى ما أجمله فيما قبل من قولـه:
{ { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } [النساء: 7] بما فصَّله في هذه الآية فقال: { يوصيكم الله } أي يأمركم ويفرض عليكم لأن الوصية منه تعالى أمر وفرض يدل على ذلك قولـه: { { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } } [الأنعام: 151] ذلكم وصاكم به وهذا من الفرض المحكم علينا { في أولادكم } أي في ميراث أولادكم، أو في توريث أولادكم، وقيل: في أمور أولادكم إذا متم ثم بَيَّن ما أوصى به فقال: { للذكر مثل حظ الأنثيين } أي للابن من الميراث مثل نصيب البنتين ثم ذكر نصيب الإناث من الأولاد فقال: { فإن كن نساء فوق اثنتين } أي فإن كانت المتروكات أو الأولاد نساء فوق اثنتين: { فلهن ثلثا ما ترك } من الميراث ظاهر هذا الكلام يقتضي أن البنتين لا يستحقان الثلثين لكن الأمة أجمعت على أن حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات وذكر في الظاهر وجوه:
أحدها: أن في الآية بيان حكم البنتين فما فوقهما لأن معناه فإن كنّ اثنتين فما فوقهما فلهن ثلثا ما ترك إلا أنه قدم ذكر الفوق على الاثنتين كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا تسافر المرأة سفراً فوق ثلاثة أيام إلا ومعها زوجها أو ذو محرم لها " ومعناه لا تسافر سفراً ثلاثة أيام فما فوقها.
وثانيها: ما قاله أبو العباس المبرد إن في الآية دليلاً على أن للبنتين الثلثين لأنه إذا للذكر مثل حظ الأنثيين وكان أول العدد ذكراً وأنثى وللذكر الثلثان وللأنثى الثلث علم من ذلك أن للبنتين الثلثين ثم أعلم الله بأن ما فوق البنتين لهن الثلثان.
وثالثها: إن البنتين أعطيتا الثلثين بدليل لا يفرض لهما مسمى والدليل قولـه تعالى:
{ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم في الكلالة } [النساء: 176] إن امرء هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك فقد ثار للأخت النصف كما أن للبنت النصف فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان فلهما وأعطيت الإبنتان الثلثين كما أعطيت الأختان الثلثين وأعطيت جملة الأخوات الثلثين كما أعطيت البنات الثلثين ويدل عليه أيضاً الإجماع على أن حكم البنتين حكم البنات في استحقاق الثلثين إلا ما روي عن ابن عباس إن للبنتين النصف وإن الثلثين فرض الثلث من البنات وحكى النظام في كتاب النكت عن ابن عباس أنه قال: للبنتين نصف وقيراط لأن للواحدة النصف وللثلاث الثلثين فينبغي أن يكون للبنتين ما بينهما { وإن كانت واحدة } أي وإن كانت المولودة أو المتروكة واحدة.
{ فلها النصف } أي نصف ما ترك الميت ثم ذكر ميراث الوالدين فقال { ولأبويه } يعني بالأبوين الأب والأم والهاء الذي أضيف إليه الأبوان كناية عن غير مذكور تقديره ولأبوي الميت { لكل واحد منهما السّدس مما ترك إن كان له ولد } فللأب السدس مع الولد وكذلك الأم لها السدس معه ذكراً كان أو أنثى واحداً كان أو أكثر ثم إن كان الولد ذكراً كان الباقي له، وإن كانوا ذكوراً فالباقي لهم بالسوية وإن كانوا ذكوراً وإناثاً، فللذكر مثل حظ الأنثيين، وإن كانت بنتاً فلها النصف بالتسمية ولأحد الأبوين السدس، أو لهما السدسان، والباقي عند أئمتنا يرد على البنت وعلى أحد الأبوين أو عليهما على قدر سهامهم بدلالة قولـه:
{ { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [الأنفال: 75] وقد ثبت أن قرابة الوالدين وقرابة الولد متساوية لأن الولد يتقرب إلى الميت بنفسه كما أن الوالدين يتقربان إليه بأنفسهما وولد الولد يقوم مقام الولد للصلب مع الوالدين كل منهم يقوم مقام من يتقرب به وفي بعض هذه المسائل خلاف بين الفقهاء.
{ فإن لم يكن له }: يعني للميت { ولد } أي ابن ولا بنت ولا أولادهما لأن اسم الولد يعم الجميع { وورثه أبواه فلأمه الثلث } وظاهر هذا يدل علي أن الباقي للأب وفيه إجماع فإن كان في الفريضة زوج فإن له النصف وللأم الثلث والباقي للأب وهو مذهب ابن عباس وأئمتنا ومن قال في هذه المسألة إن للأم ثلث ما يبقى فقد ترك الظاهر وكذلك إن كان بدل الزوج الزوجة لها الربع وللأم الثلث والباقي للأب.
وقولـه: { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } قال أصحابنا: إنما يكون لها السدس إذا كان هناك أب ويدلّ عليه ما تقدمه من قولـه: { وورثه أبواه } فإنّ هذه الجملة معطوفة على قولـه: { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } وتقديره فإن كان له إخوة وورثه أبواه فلأمه السدس وقال بعض أصحابنا: إن لها السدس مع وجود الإخوة وإن لم يكن هناك أب وبه قال جميع الفقهاء واتفقوا على أن الأخوين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس وقد روي عن ابن عباس أنه قال لا تحجب الأم عن الثلث إلى السدس بأقل من ثلاثة من الإخوة والأخوات كما تقتضيه ظاهر الآية وأصحابنا يقولون لا تحجب الأم عن الثلث إلى السدس إلا بالأخوين أو أخ وأختين أو أربع أخوات من قبل الأب والأم أو من قبل الأب خاصة دون الأم وفي ذلك خلاف بين الفقهاء قالوا والعرب تسمي الاثنين بلفظ الجمع في كثير من كلامهم حكى سيبويه أنهم يقولون وضعا رحالهما يريدون رحلي راحلتيهما.
وقال تعالى: { وكنا لحكمهم شاهدين } يعني: حكم داود وسليمان. وقال قتادة: إنما تحجب الإخوة الأم مع أنهم لا يرثون من المال شيئاً معونة للأب لأن الأب يقوم بنفقتهم ونكاحهم دون الأم وهذا يدل على أنه ذهب إلى أن الإخوة للأم لا يحجبون على ما ذهب إليه أصحابنا لأن الأب لا يلزمه نفقتهم بلا خلاف { من بعد وصية يوصي بها أو دين } أي تقسم التركة على ما ذكرنا بعد قضاء الديون وإقرار الوصية ولا خلاف في أن الدين مقدم على الوصية والميراث وإن أحاط بالمال فأما الوصية فقد قيل إنها مقدمة على الميراث وقيل بل الموصى له شريك الوارث له الثلث، ولهم الثلثين. وقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: إنكم تقرؤون في هذه الآية الوصية قبل الدين وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية والوجه في تقديم الدين على الوصية في الآية أن لفظ أو إنما هو لأحد الشيئين أو الأشياء ولا يوجب الترتيب فكأنه قال من بعد أحد هذين مفرداً أو مضموماً إلى الآخر وهذا كقولـهم جالس الحسن أو ابن سيرين أي جالس أحدهما مفرداً أو مضموماً إلى الآخر.
{ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } ذكر فيه وجوه أحدها: أن معناه لا تدرون أي هؤلاء أنفع لكم في الدنيا فتعطونه من الميراث ما يستحق ولكن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة عن مجاهد وثانيها: أن معناه لا تدرون بأَيِّهم أنتم أسعد في الدنيا والدين والله يعلمه فاقتسموه على ما بَيَّنه من المصلحة فيه عن الحسن وثالثها: أن معناه لا تدرون أن نفعكم بتربية آبائكم لكم أكثر أم نفع آبائكم بخدمتكم إيّاهم وإنفاقكم عليهم عند كبرهم عن الجبائي ورابعها: أن المعنى أطوعكم لله عز وجلَّ من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة لأن الله يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده في درجته لتقر بذلك عينه وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله والديه إلى درجته لتقرَّ بذلك أعينهم عن ابن عباس وخامسها: أن المراد لا تدرون أي الوارثين والموروثين أسرع موتاً فيرثه صاحبه فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه عن أبي مسلم.
{ فريضة من الله } أي فرض الله ذلك فريضة أو كما ذكرنا في الإعراب { إن الله كان عليماً حكيماً } أي لم يزل عليماً بمصالحكم حكيماً فيما يحكم به عليكم من هذه الأموال وغيرها قال الزجاج في كان هنا ثلاثة أقوال قال سيبويه: كان القوم شاهدوا علماً وحكمة ومغفرة وتفضلاً فقيل لهم: إن الله كان كذلك على ما شاهدتم. وقال الحسن: كان عليماً بالأشياء قبل خلقها حكيماً فيما يقدر تدبيره منها وقال بعضهم الخبر من الله في هذه الأشياء بالمضي كالخبر بالاستقبال والحال لأن الأشياء عند الله في حال واحدة ما مضى وما يكون وما هو كائن.