التفاسير

< >
عرض

إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَٰثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَٰناً مَّرِيداً
١١٧
لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً
١١٨
وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلأَنْعَٰمِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَٰنَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً
١١٩
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً
١٢٠
أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً
١٢١
-النساء

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: القراءة المشهورة إلاّ إناثاً وروي في الشواذ عن النبي إلا اثنا بالثاء قبل النون وإلا انثا بالنون قبل الثاء روتهما عائشة وروي عن ابن عباس إلاّ وثنا وإلاّ أُثُنا بضمتين والثاء قبل النون وعن عطاء بن أبي رباح إلاّ أُثْنا قبل النون وهي ساكنة.
الحجة: أمّا أُثُن فجمع وَثَن وأصله وثن قلبت الواو همزة نحو أُجُوه في وجوه وأُعُد في وُعُد فأما أُثْن بسكون الثاء فهو كأُسْد بسكون السين وأَمّا أنثا بتقديم النون على الثاء فيمكن أن يكون جمع أنيث كقولـهم سيف أنيث الحديد ويمكن أن يكون جمع إناث.
اللغة: المَريد والمارد والمتمرد بمعنى وهو العاتي والخارج عن الطاعة والمتملس منها، يقال: حائط ممرد أي مملس وشجرة مرداء تناثر ورقها ومنه سمّي من لم تنبت له اللحية أمرد أي أملس موضع اللحية، ومَرَد الرجل يمْرُد مروداً إذا عتا وخرج عن الطاعة وأصل اللعن البعد ومنه قيل للطريد اللعين، وأصل الفرض القطع والفُرْضة الثلمة تكون في النهر والفُرْض الحَزّ الذي يكون في السواك وغيره يشدّ فيه الخيط والفَرْض في القوس الحَزّ الذي يكون فيه الوتر والفريضة ما أمر الله به العباد فجعله حتماً عليهم قاطعاً وأما قول الشاعر:

إذا أَكَلْتَ سَمَكــاً وَفَرْضــــا ذَهَبْتَ طُولاً وذهَبْتَ عَرْضا

فالفرض هنا التمر وإنما سمي التمر فرضاً لأنه يؤخذ في فرائض الصدقة، التبتيك التشقيق والبتك القطع بتَّكتُه ابتكّه تبتيكا والبتكة مثل القطعة البِتَك القِطَع قال زهير:

حَتّى إذَا ما هَوَتْ كَفُّ الغُلامِ لَهُ طارَتْ وَفي كَفّهِ مِنْ رِيشِها بِتَكُ

والمحيص المَعْدل يقال حِصتُ عنه أحيص حَيْصاً وجِضتُ أجيضُ جيضاً بمعنى قال:

وَلَمْ نَدْرِ إِن جِضْنا عَنِ الْمَوْتِ جَيْضَةً كَمِ الْعُمْرُ باقٍ وَالْمَــدى مُتَطاوِلُ

روي باللغتين.
الإعراب: إنْ على أربعة أوجه أحدها: إن النافية كما في الآية إن يدعون أي ما يدعون والثاني: إن المخففة من الثقيلة كما في قولـه:
{ وإن كانت لكبيرة } [البقرة: 143] ويلزمهم لام التأكيد والثالث: إن الجازمة كما في قولـه { { وإنْ تَدْعُهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبداً } [الكهف: 57] والرابع: إن المزيدة نحو: ما إن جاءني زيد:

وما إن طِبُّنا جُبْنٌ وَلَكِنْ مَنايانا وَدَوْلَةُ آخَرينا

لعنه الله جملة في موضع النصب بأنَّها صفة لقولـه: { شيطاناً } واللام في { لأَتخذن } وما بعده لام اليمين وإنما يدخل على جواب القسم لأَنه المقسم عليه فعلى هذا يكون القسم هنا مضمراً في الجميع.
المعنى: لمّا ذكر في الآية المتقدمة أهل الشرك وضلالهم ذكر في هذه الآية حالهم وفعالهم فقال: { إن يدعون } أي ما يدعون هؤلاء المشركون وما يعبدون { من دونه } أي من دون الله { إلا إناثاً } فيه أقوال أحدها: إلا أوثاناً وكانوا يسمّون الأَوثان باسم الإِناث اللات والعزى ومناة الثالثة الأُخرى وإساف ونائلة عن أبي مالك والسدي ومجاهد وابن زيد وذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره قال: كان في كل واحدة منهن شيطانة أنثى تتراءى للسَدَنة وتكلّمهم وذلك من صنع إبليس وهو الشيطان الذي ذكره الله. فقال: لعنه الله. قالوا: واللات كان اسماً لصخرة والعزى كان اسماً لشجرة إلا أنهم نقلوهما إلى الوثن وجعلوهما علماً عليهما. وقيل: العزى تأنيث الأَعز واللات تأنيث لفظ الله. وقال الحسن: كان لكل حيّ من العرب وثن يسمونه باسم العز تأنيث الأَعز واللات تأنيص لفظ الله. وقال الحسن: كان لكل حيّ من العرب وثن يسمونه باسم الأُنثى وثانيها: أن المعنى إلاّ مواتاً عن ابن عباس والحسن وقتادة فعلى هذا يكون تقديره ما يعبدون من دون الله إلا جماداً ومواتاً لا تعقل ولا تنطق ولا تضر ولا تنفع فدلّ ذلك على غاية جهلهم وضلالهم وسمَّاها إناثاً لاعتقاد مشركي العرب الأُنوثة في كل ما اتضعت منزلته ولأَن الإِناث من كل جنس أرذله. وقال الزجاج: لأَن الموات يخبر عنها بلفظ التأنيث تقول: الأَحجار تعجبني، ولا تقول يعجبونني ويجوز أن يكون إناثاً سماها لضعفها وقلة خيرها وعدم نصرها.
وثالثها: أن المعنى إلا ملائكة لأَنهم كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله وكانوا يعبدون الملائكة عن الضحاك.
{ وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً } أي مارداً شديداً في كفره وعصيانه متمادياً في شركه وطغيانه يسأل عن هذا فيقال: كيف نفى في أول الكلام عبادتهم لغير الأَوثان ثم أثبت في آخره عبادتهم الشيطان فأثبت في الآخر ما نفاه في الأَول أجاب الحسن عن هذا فقال: إنهم لم يعبدوا إلا الشيطان في الحقيقة لأَن الأَوثان كانت مواتاً ما دعت أحداً إلى عبادتها بل الداعي إلى عبادتها الشيطان فأضيفت العبادة إلى الشيطان بحكم الدعاء وإلى الأَوثان لأَجل أنهم كانوا يعبدونها ويدل عليه قولـه تعالى:
{ { ويوم نحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن } [سبأ: 40 - 41] أضافت الملائكة عبادتهم إلى الجن من قبل أن الجن دعتهم إلى عبادة الملائكة وقال ابن عباس كان في كل واحد من أصنامهم التي كانوا يعبدونها شيطان مريد يدعو المشركين إلى عبادتها فلذلك حسن إضافة العبادة إلى الأَصنام وإلى الشيطان. وقيل: ليس في الآية إثبات المنفي بل ما يعبدون إلا الأَوثان وإلا الشيطان وهو إبليس { لعنه الله } أبعده الله عن الخير بإيجاب الخلود في نار جهنم { وقال } يعني الشيطان لما لعنه الله { لأتخذنَّ من عبادك نصيباً } أي حظّاً { مفروضاً } أي معلوماً عن الضحاك. وقيل: مقدراً محدوداً وأصل الاتخاذ أخذ الشيء على وجه الاختصاص فكل من أطاعه فإنه من نصيبه وحزبه كما قال سبحانه { كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله } [الحج: 4] وروي أن النبي قال في هذه الآية: " "من بني آدم تسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة" " وفي رواية أخرى: " "من كل ألف واحد لله وسائرهم للنار. ولإبليس " أوردهما أبو حمزة الثمالي في تفسيره ويقال كيف علم إبليس أن له أتباعاً يتابعونه والجواب علم ذلك من قولـه: { لأَملأَنَّ جهنم منك وممن تبعك } [ص: 85] وقيل: إنه لما نال من آدم ما نال طمع في ولده وإنما قال ذلك ظناً ويؤيّده قولـه تعالى: { { ولقد صدّق عليهم إبليس ظنَّه } [سبأ: 20].
{ ولأَضلنّهم } هذا من مقالة إبليس يعني لأَضلنهم عن الحق والصواب، وإضلاله دعاؤه إلى الضلال، وتسبيبه له بحبائله وغروره ووساوسه { ولأَمنّينهم } يعني: أمنينهم طول البقاء في الدنيا فيؤثرون بذلك الدنيا ونعيمها على الآخرة. وقيل: معناه أقول لهم ليس وراءكم بعث ولا نشر ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فافعلوا ما شئتم عن الكلبي. وقيل: معناه أُمنّينهم بالأَهواء الباطلة الداعية إلى المعصية وأُزيّن لهم شهوات الدنيا وزهراتها وأدعو كلاًّ منهم إلى نوع يميل طبعه إليه فأصدّه بذلك عن الطاعة وألقيه في المعصية.
{ ولآمرنَّهم فليبتكنَّ آذان الأَنعام } تقديره ولآمرنهم بتبتيك آذان الأَنعام فليبتكن أي ليشققن آذانهم عن الزجاج وقيل ليقطعن الآذان من أصلها وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) وهذا شيء قد كان مشركو العرب يفعلونه يجدعون آذان الأَنعام. ويقال: كانوا يفعلونه بالبحيرة والسائبة وسنذكر ذلك في سورة المائدة إن شاء الله { ولآمرنَّهم فليغيرن خلق الله } أي لأَمرنهم بتغيير خلق الله فليغيرنه واختلف في معناه فقيل يريد دين الله وأمره عن ابن عباس وإبراهيم ومجاهد والحسن وقتادة وجماعة وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) ويؤيده قولـه سبحانه وتعالى:
{ { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } [الروم: 30] وأراد بذلك تحريم الحلال وتحليل الحرام وقيل أراد معنى الخصاء عن عكرمة وشهر بن حوشب وأبي صالح عن ابن عباس وكرهوا الإِخصاء في البهائم. وقيل: إنه الوشم عن ابن مسعود. وقيل: إنه أراد الشمس والقمر والحجارة عدلوا عن الانتفاع بها إلى عبادتها عن الزجاج.
{ ومن يتخذ الشيطان ولياً } أي ناصراً وقيل ربّاً يطيعه { من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً } أي ظاهراً وأيّ خسران أعظم من استبدال الجنة بالنار وأيّ صفقة أخسر من استبدال رضاء الشيطان برضاء الرحمن { يعدهم } الشيطان أن يكون لهم ناصراً { ويمنيهم } الأَكاذيب والأَباطيل. وقيل: معناه يعدهم الفقر إن أنفقوا مالهم في أبواب البرّ ويمنيهم طول البقاء في الدنيا ودوام النعيم فيها ليؤثروها على الآخرة { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } أي لا يكون لما يعدهم ويمنيهم أصل وحقيقة والغرور إبهام النفع فيما فيه ضرر { أولئك } إشارة إلى الذين اتخذوا الشيطان وليّاً من دون الله فاغتروا بغروره وتابعوه فيما دعاهم إليه { مأواهم } مستقرهم جميعاً { جهنم ولا يجدون عنها محيصاً } أي مخلصاً ولا مهرباً ولا معدلاً.