القراءة: قرأ أهل الكوفة تجارة نصباً والباقون بالرفع.
الحجة: قال أبو علي من رفع فتقديره إلا أن تقع تجارة فالاستثناء منقطع لأن التجارة عن تراض ليس من أكل المال بالباطل ومن نصب تجارة احتمل ضربين أحدهما: إلا أن تكون التجارة تجارة عن تراض ومثل ذلك قول الشاعر:
إذا كانَ يَوْماً ذا كَواكِبَ أشْنَعَا
أي إذا كان اليوم يوماً والآخر: إلا أن تكون الأموال أموال تجارة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فالاستثناء على هذا الوجه أيضاً منقطع.
المعنى: لمّا بيَّن سبحانه تحريم النساء على غير الوجوه المشروعة عَقَّبه بتحريم الأموال في الوجوه الباطلة فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي صدّقوا الله ورسوله {لا تأكلوا أموالكم بينكم} ذكر الأكل وأراد سائر التصرفات وإنما خصَّ الأكل لأنه معظم المنافع. وقيل: لأنه يطلق على وجوه الانفاقات اسم الأكل. يقال: أكله ماله بالباطل وإن أنفقه في غير الأكل ومعناه لا يأكل بعضكم أموال بعض. وفي قولـه: {بالباطل} قولان أحدهما: أنه الربا والقمار والبخس والظلم عن السدي. وهو المروي عن الباقر والآخر: أن معناه بغير استحقاق من طريق الأعواض عن الحسن قال: وكان الرجل منهم يتحرج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية إلى أن نسخ ذلك بقولـه في سورة النور { وليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم } [النور: 61] إلى قولـه: { أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً } [النور: 61] والأول هو الأقوى لأن ما أكل على وجه مكارم الأخلاق لا يكون أكلاً باطلاً وثالثها: أن معناه أخذه من غير وجهه وصرفه فيما لا يحل له.
{إلا أن تكون تجارة} أي مبايعة ثم وصف التجارة فقال {عن تراض منكم} أي يرضى كل واحد منكم بذلك. وقيل: في معنى التراضي في التجارة قولان أحدهما: أنه إمضاء البيع بالتفرق أو التخاير بعد العقد وهو قول شريح والشعبي وابن سيرين ومذهب الشافعي والإمامية لقولـه: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" أو يكون بيع خيار وربما قالوا أو يقول أحدهما للآخر اختر والثاني: أنه البيع بالعقد فقط عن مالك وأبي حنيفة.
{ولا تقتلوا أنفسكم} فيه أربعة أقوال أحدها: أن معناه لا يقتل بعضكم بعضاً لأنكم أهل دين واحد وأنتم كنفس واحدة. كقولـه: { فسلّموا على أنفسكم } [النور: 61] عن الحسن وعطاء والسدي والجبائي وثانيها: أنه نهى الإنسان عن قتل نفسه في حال غضب أو ضجر عن أبي القاسم البلخي وثالثها: أن معناه: لا تقتلوا أنفسكم بأن تهلكوها بارتكاب الآثام، والعدوان في أكل المال بالباطل، وغيره من المعاصي التي تستحقون بها العذاب ورابعها: ما روي عن أبي عبد الله (ع) أن معناه لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه.
{إن الله كان بكم رحيماً} أي لم يزل بكم رحيماً وكان من رحمته أن حرّم عليكم قتل الأنفس، وإفساد الأموال {ومن يفعل ذلك} قيل: إن ذلك إشارة إلى أكل الأموال بالباطل، وقتل النفس بغير حق. وقيل: إشارة إلى المحرمات في هذه السورة من قولـه: {يا أيها الذين آمنوا لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كرهاً} وقيل إشارة إلى فعل كل ما نهى الله عزّ وجلّ عنه من أول السورة وقيل: إلى قتل النفس المحرمة خاصة عن عطا {عدواناً وظلماً} قيل: هما واحد وأتى بهما لاختلاف اللفظين كما قال الشاعر:
وأَلْفى قَولَـها كِذْباً وَمَيْنا
وقيل: العدوان تجاوز ما أمر الله به، والظلم أن يأخذه على غير وجه الاستحقاق. وقيل: إنما قيَّده بالعدوان والظلم لأنه أراد به المستحلين {فسوف نصليه ناراً} أي نجعله صلى نار ونحرقه بها {وكان ذلك} أي إدخاله النار وتعذيبه فيها {على الله} سبحانه {يسيراً} هيّناً لا يمنعه منه مانع ولا يدفعه عنه دافع ولا يشفع عنده إلا بإذنه شافع.