التفاسير

< >
عرض

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً
٤١
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً
٤٢
-النساء

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم تَسْوي مفتوحة التاء خفيفة السين وقرأ يزيد ونافع وابن عامر بفتح التاء وتشديد السين، وقرأ الباقون تُسْوي بضم التاء وتخفيف السين.
الحجة: قال أبو علي قراءة نافع وابن عامر لو تَسوَّى معناه لو تتسوى فادغم التاء في السين لقربها منها، وفي قراءة حمزة والكسائي حذف التاء فالتاء اعتلت بالحذف كما اعتلت بالإدغام وأما تُسَوّى فهي تُفَعَّلُ من التسوية.
الإعراب: كيف لفظها الاستفهام، ومعناه التوبيخ وتقديره كيف حال هؤلاء يوم القيامة وحذف لدلالة الكلام عليه، والعامل في كيف المبتدأ المحذوف فهو في موضع الرفع بأنه خبر المبتدأ ولا يجوز أن يكون العامل في كيف جئنا لأنه في موضع جرّ بإضافة إذا إليه والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف كما لا تعمل الصلة فيما قبل الموصول لأنه من تمام الاسم ومن كل أمة في موضع نصب على الحال لأنه صفة شهيد فلما تقدمه انتصب على الحال والعامل في إذا جوابه المحذوف لدلالة ما تقدَّمه عليه وشهيداً منصوب على الحال والعامل في يومئذٍ يودّ بعد إذ ولم يجز ذلك في إذا جئنا لأنه لما أضيف يوم إلى إذ بطلت اضافته إلى الجملة ونوّن إذ ليدلّ على تمام الاسم.
المعنى: لَمَّا ذكر اليوم الآخر وصف حال المنكرين له فقال { فكيف } أي فكيف حال الأمم وكيف يصنعون { إذا جئنا من كل أُمة } من الأمم { بشهيد وجئنا بك } يا محمد { على هؤلاء } يعني قومه { شهيداً } وهذا كما تقول العرب للرجل في الأمر الهائل يتوقعه كيف بك إذا كان كذا يريد بذلك تعظيم الأمر، وتهويله، وتحذيره، وتحذير الرجل عنه، وانذاره به وحَثَّه على الاستعداد له ومعنى الآية إن الله يستشهد يوم القيامة كل نبي على أُمته فيشهد لهم وعليهم ويستشهد نبيّنا على أُمته وفي الآية مبالغة في الحَثِّ على الطاعة، واجتناب المعصية، والزجر عن كل ما يُسْتَحى منه على رؤوس الأشهاد لأنه يشهد للإنسان وعليه يوم القيامة شهود عدول لا يتوقف في الحكم بشهادتهم، ولا يتوقع القدح فيهم، وهم الأنبياء والمعصومون، والكرام الكاتبون، والجوارح، والمكان والزمان، كما قال تعالى
{ { وكذلك جعلناكم أُمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس } [البقرة: 143] وقال: { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } [ق: 18] وقال: { إن السمع والبصر والفؤاد كل أُولئك كان عنه مسؤولاً } [الإسراء: 36] { ويوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } [النور: 24] وفي بعض الأخبار المكان والزمان يشهدان على الرجل بأعماله، فليتذكر العاقل هذه الشهادة ليستعدّ بهذه الحالة، فكأن قد وقعت، وكأن الشهادة قد أُقيمت وروي أن عبد الله بن مسعود قرأ هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم ففاضت عيناه فإذا كان الشاهد تفيض عيناه لهول هذه المقالة وعظم هذه الحالة فماذا لعمري ينبغي أن يصنع المشهود عليه.
{ يومئذ يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } معناه لو تجعلون والأرض سواء كما قال تعالى:
{ { ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } [النبأ: 40] ومن التسوية قولـه: { بلى قادرين على أن نسوي بنانه } [القيامة: 4] أي نجعلها صفيحة واحدة لا يفصل بعضها عن بعض فيكون كالكف فيعجز لذلك عما يستعان عليه من الأعمال بالبنان وروي عن ابن عباس أن معناه يودّون أن يمشي عليهم أهل الجمع يطؤونهم بأقدامهم كما يطؤون الأرض وعلى القول الأول فالمراد به أن الكفار يوم القيامة يودّون أنهم لم يبعثوا، وأنهم كانوا والأرض سواء لعلمهم بما يصيرون إليه من العذاب والخلود في النار. وروي أيضاً أن البهائم يوم القيامة تصير تراباً، فيتمنى عند ذلك الكفار أنهم صاروا كذلك تراباً، وهذا لا يجيزه إلا من قال إن العوض منقطع وهو الصحيح، ومن قال: إن العوض دائم لم يصحح هذا الخبر.
وقولـه: { ولا يكتمون الله حديثاً } قيل فيه أقوال أحدها: إنه عطف على قولـه: { لو تسوّى } أي ويودّون إن لو لم يكتموا الله حديثاً لأنهم إذا سئلوا قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين فتشهد عليهم جوارحهم بما عملوا فيقولون يا ليتنا كنا تراباً، ويا ليتنا لم نكتم الله شيئاً، وليس ذلك بحقيقة الكتمان فإنه لا يكتم شيء عن الله لكنَّه في صورة الكتمان وهذا قول ابن عباس وثانيها: أنه كلام مستأنف والمراد به أنهم لا يكتمون الله شيئاً من أمور دنياهم، وكفرهم بل يعترفون به فيدخلون النار باعترافهم، وإنما لا يكتمون لعلمهم بأنه لا ينفعهم الكتمان، وإنما يقولون والله ربنا ما كنا مشركين في بعض الأحوال، فإن للقيامة مواطن، وأحوالاً، ففي موطن لا يسمع كلامهم إلا همساً كما أخبر تعالى عنهم، وفي موطن ينكرون ما فعلوه من الكفر والمعاصي ظناً منهم أن ذلك ينفعهم، وفي موطن يعترفون بما فعلوه عن الحسن وثالثها: أن المراد أنهم لا يقدرون على كتمان شيء من الله لأن جوارحهم تشهد عليهم بما فعلوه، فالتقدير لا تكتمه جوارحهم وإن كتموه ورابعها: أن المراد ودّوا { لو تسوى بهم الأرض } وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمد وبعثه عن عطاء وخامسها: أن الآية على ظاهرها فالمراد أولاً يكتمون الله شيئاً لأنهم ملجؤون إلى ترك القبائح والكذب، وقولـهم: والله ربنا ما كنا مشركين أي ما كنا مشركين عند أنفسنا لأنهم كانوا يظنون في الدنيا أن ذلك ليس بشرك من حيث تقرّبهم إلى الله عن أبي القاسم البلخي.