التفاسير

< >
عرض

فَكَيْفَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَٰناً وَتَوْفِيقاً
٦٢
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً
٦٣
-النساء

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الحلف القسم ومنه الحليف لتحالفهم فيه على الأَمر، وأصل البلاغة البلوغ. يقال: بلغ الرجل بالقول يبلغ بلاغة فهو بليغ إذا صار يبلغ بعبارته كثيراً من ما في قلبه. ويقال: أحمق بَلْغٌ وبِلْغٌ إذا كان مع حماقته يبلغ حيث يريد. وقيل: معناه قد بلغ في الحماقة.
الإعراب: موضع كيف رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير فكيف صنيعهم إذا أصابتهم مصيبة فكأنه قال الإساءة صنيعهم بالجرأة على كذبهم أم الإِحسان صنيعهم بالتوبة من جرمهم ويجوز أن يكون موضع كيف نصباً وتقديره كيف يكونون أمصرين أم تائبين يكونون. ولو قلت إنه رفع على معنى كيف بك كأنه قال: إصلاح بك أم فساد بك فيكون مبتدأ محذوف الخبر، ويحلفون في موضع نصب على الحال وإن أردنا إلاّ إحساناً جواب القسم وإحساناً مفعول به أي أردنا إحساناً.
المعنى: ثم عطف تعالى على ما تقدم بقولـه: { فكيف } صنيع هولاء { إذا أصابتهم مصيبة } أي نالتهم من الله عقوبة { بما قدّمت أيديهم } بما كسبت أيديهم من النفاق وإظهار السخط لحكم النبي { ثم جاؤوك } يا محمد { يحلفون } يقسمون { بالله إن أردنا إلا إحساناً } أي ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك إلا التخفيف عنك، فإنا نحتشمك برفع الصوت في مجلسك، ونقتصر على من يتوسط لنا برضاء الخصمين دون الحكم المورث للضغائن فقولـه: { إلا إحساناً }: أي إحساناً إلى الخصوم { وتوفيقاً } بينهم بالتماس التوسعة دون الحمل على مُرّ الحكم، وأراد بالتوفيق الجمع والتأليف. وقيل: توفيقاً أي طلباً لما يوافق الحق. وقيل: إن المعنى بالآية عبد الله بن أبي، والمصيبة: ما أصابه من الذلّ برجعتهم من غزوة بني المصطلق وهي غزوة المُرَيْسيع حين نزلت سورة المنافقين فاضطر إلى الخشوع والاعتذار وسنذكر ذلك إن شاء الله في سورة المنافقين، أو مصيبة الموت لما تضرع إلى رسول الله في الإقالة والاستغفار واستوهبه ثوبه ليتقي به النار، يقولون: ما أردنا بالكلام بين الفريقين المتنازعين بني المصطلق ذكره الحسين بن علي المغربي.
وفي الآية دلالة على أنه قد تصيب المصيبة بما يكتسبه العبد من الذنوب ثم اختلف في ذلك فقال أبو علي الجبائي: لا يكون ذلك إلاّ عقوبة إلاّ في التائب. وقال أبو هاشم: يكون ذلك لطفاً وقال القاضي عبد الجبار: قد يكون ذلك لطفاً وقد يكون جزاء وهو موقوف على الدليل { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } من الشرك والنفاق والخيانة { فأعرض عنهم } أي لا تعاقبهم { وعظهم } بلسانك { وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } أي قل لهم: إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قُتلتم، فهذا هو القول البليغ لأَنه يبلغ من نفوسهم كلّ مبلغ عن الحسن وقيل معناه فأعرض عن قبول الاعتذار منهم، وعظهم مع ذلك، وخَوّفهم بمكاره تنزل بهم في أنفسهم إن عادوا لمثل ما فعلوه عن أبي علي الجبائي. وفي قولـه: { وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } دلالة على فضل البلاغة وحثّ على اعتمادها بأوضح بيان لكونها أحد أقسام الحكمة لما فيها من بلوغ المعنى الذي يحتاج إلى التفسير باللفظ الوجيز مع حسن الترتيب.