التفاسير

< >
عرض

أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً
٨٢
وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً
٨٣
-النساء

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: التدبر النظر في عواقب الأمور، والتدابر التقاطع لأن كل واحد يولي الآخر دبره بعداوته له، ودَبَّر القوم يدبرون دباراً هلكوا لأنهم يذهبون في جهة الأدبار عن الغرض والفرق بين التدبر والتفكر، أن التدبر تصرف القلب بالنظر في العواقب والتفكر تصرف القلب بالنظر في الدلائل، والاختلاف هو امتناع أحد الشيئين أن يسدّ مسدّ الآخر فيما يرجع إلى ذاته كالسواد الذي لا يسد مسد البياض وكذلك الذهاب في الجهات المختلفة وأصل الإذاعة التفريق قال تُبّع لما ورد المدينة:

وَلَقَدْ شَرِبْتُ عَلى بَراجِمِ شَرْبةً كادَتْ بِباقِيَةِ الحياةِ تُذِيعُ

أي تُفرق وبراجم ماء بالمدينة كان يشرب منه فتشبثت بحلقِه عَلَقةٌ، وذاع الخبر ذيعاً ورجل مذياع لا يستطيع كتمان خبر وأذاع الناس بما في الحوض إذا شربوه وأذاعوا بالمتاع ذهبوا به والإذاعة والإشاعة والإفشاء والإعلان والإظهار نظائر، وضده الكتمان والأسرار والإخفاء وأصل الاستنباط الاستخراج. يقال لك: ما استخرج حتى يقع عليه رؤية العين أو معرفة القلب قد استنبط، والنبط الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر وأنبط فلان أي استنبط الماء من طين حرّ ومنه اشتقاق النَبَط لاستنباطهم العيون.
المعنى: { أفلا يتدبرون القرآن } أي أفلا يتفكر اليهود والمنافقون في القرآن إذ ليس فيه خلل ولا تناقض ليعلموا أنه حجة. وقيل: ليعلموا أنهم لا يقدرون على مثله فيعرفوا أنه ليس بكلام أحد من الخلق. وقيل: ليعرفوا اتساق معانيه وائتلاف أحكامه وشهادة بعضه لبعض وحسن عباراته. وقيل: ليعلموا كيف اشتمل على أنواع الحكم من أمر بِحَسَنٍ، ونهي عن قبيح وخبر عن مخبر صدق ودعاء إلى مكارم الأخلاق وحثَّ على الخير والزهد مع فصاحة اللفظ وجودة النظم وصحة المعنى فيعرفوا أنه خلاف كلام البشر، والأولى أن تحمل على الجميع لأن من تدبر فيه علم جميع ذلك { ولو كان من عند غير الله } أي كلام غير الله أي لو كان من عند النبي أو كان يعلّمه بشر كما زعموا.
{ لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } قيل فيه أقوال أحدها: أن معناه لوجدوا فيه اختلاف تناقض من جهة حق وباطل عن قتادة وابن عباس والثاني: اختلافاً في الأخبار عما يسرّون عن الزجاج والثالث: من جهة بليغ ومرذول عن أبي علي والرابع: تناقضاً كثيراً عن ابن عباس، وذلك أن كلام البشر إذا طال وتضمن من المعاني ما تضمنه القرآن، لم يخل من التناقض في المعاني والإخلاف في اللفظ وكل هذه المعاني منفي عن كلام الله كما قال:
{ { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } [فصلت: 42] وهذه الآية تضمنت الدلالة على معان كثيرة منها بطلان التقليد وصحة الاستدلال في أصول الدين لأنه دعا إلى التفكر والتدبر وحَثّ على ذلك ومنها فساد من زعم أن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول من الحشوية وغيرهم لأنه حَثّ على تدبّره ليعرفوه ويتبيّنوه ومنها أنه لو كان من عند غيره لكان على وزان كلام عباده، ولوجدوا الاختلاف فيه ومنها أن المتناقض من الكلام لا يكون من فعل الله لأنه لو كان من فعله لكان من عنده لا من عند غيره والاختلاف في الكلام يكون على ثلاثة أضرب: اختلاف تناقض، واختلاف تفاوت، واختلاف تلاوة. واختلاف التفاوت يكون في الحسن والقبح والخطأ والصواب ونحو ذلك مما تدعو إليه الحكمة وتصرف عنه، وهذا الجنس من الاختلاف لا يوجد في القرآن البتة كما لا يوجد اختلاف التناقض. وأما اختلاف التلاوة فهو ما يتلاوم في الجنس كاختلاف وجوه القرآن واختلاف مقادير الآيات، واختلاف الأحكام في الناسخ والمنسوخ فذلك موجود في القرآن وكلّه حق وكله صواب واستدل بعضهم بانتفاء التناقض عن القرآن على أنه من فعل الله بأن قال لو لم يكن ذلك دلالة لما أخبرنا الله به، ولو لم يخبر بذلك لكان لقائل أن يقول إنه يمكن أن يتحفظ في الكلام ويهذب تهذيباً لا يوجد لذلك فيه شيء من التناقض وعلى هذا فلا يمكن أن يجعل انتفاء التناقض جهة إعجاز القرآن إلا بعد معرفة صحة السمع وصدق النبي.
ثم عاد تعالى إلى ذكر حالتهم فقال { وإذا جاءهم } يعني هؤلاء الذين سبق ذكرهم من المنافقين. وقيل: هم الذين ذكرهم من ضعفة المسلمين { أمر من الأمن أو الخوف } يريد ما كان يرجف به من الأخبار في المدينة إما من قبل عدو يقصدهم وهو الخوف أو من ظهور المؤمنين على عدوهم وهو الأمن { أذاعوا به } أي تحدثوا به وأفشوه من غير أن يعلموا صحته كره الله ذلك لأن من فعل هذا فلا يخلو كلامه من كذب ولما يدخل على المؤمنين به من الخوف. ثم قال: { ولو ردّوه إلى الرسول } المعنى ولو سكتوا إلى أن يظهره الرسول { وإلى أولي الأمر منهم } قال أبو جعفر (ع): هم الأئمة المعصومون وقال السدي وابن زيد وأبو علي والجبائي: هم أمراء السرايا والولاة. وقال الحسن وقتادة وغيرهم: إنهم أهل العلم والفقه الملازمون للنبي لأنهم لو سألوه عن حقيقة ما أرجفوا به لعلموه واختاره الزجاج وأنكر أبو علي الجبائي هذا الوجه وقال إنما يطلق أولو الأمر على من له الأمر على الناس { لعلمه الذين يستنبطونه } أي لعلم ذلك الخبر الذين يستخرجونه عن الزجاج. وقيل: يتحسّسونه عن ابن عباس وأبي العالية. وقيل: يبتغونه ويطلبون علم ذلك عن الضحاك. وقيل: يسألون عنه عن عكرمة. قال استنباطهم سؤالهم الرسول عنه وجميع هذه الأقوال متقاربة المعنى { منهم } قيل: إن الضمير في منهم يعود إلى أولي الأمر وهو الأظهر. وقيل: يعود إلى الفرقة المذكورة من المنافقين أو الضعفة.
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته } أي ولولا إيصال مواد الألطاف من جهة الله. وقيل: فضل الله الإسلام ورحمته القرآن عن ابن عباس. وقيل: فضل الله النبي ورحمته القرآن عن الضحاك والسدي وهو اختيار الجبائي وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) فضل الله ورحمته النبي وعليّ { لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً } قيل فيه أقوال أحدها: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً والاستثناء من قولـه: { أذاعوا به } عن ابن عباس فيكون معناه { أذاعوا به إلا قليلاً } وهو اختيار المبرد والكسائي والفراء والبلخي والطبري قالوا: وهذا أولى لأن الإذاعة أكثر من الاستنباط وثانيها: إن الاستثناء من قولـه لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلاً ويكون تقديره ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم { لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلاً } عن أكثر أهل اللغة وثالثها: أن المراد { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً } منكم على الظاهر من غير تقديم ولا تأخير وهذا كما اتبع الشيطان من كان قبل بعثة النبي إلا قليلاً منهم لم يتبعوه واهتدوا بعقولـهم لترك عبادة الأوثان بغير رسول ولا كتاب، وآمنوا بالله ووحّدوه مثل قس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل والبراء الشني وأبي ذر الغفاري وطلاب الدين وبه قال الأنباري ورابعها: أن معناه: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } بالنصرة والفتح مرة بعد أخرى { لاتبعتم الشيطان } فيما يُلقي إليكم من الوساوس والخواطر الفاسدة المؤدية إلى الجبن والفشل الموجبة لضعف النية والبصيرة إلا قليلاً من أفاضل أصحاب رسول الله الذين هم أهل البصائر النافذة والعزائم الثابتة والنيات الخالصة لا ييأسون من رحمة الله ولا يشكّون في نصرته وإنجاز وعده وإن أبطأ بعض الإبطاء والله أعلم.
النظم: اختلف في وجه اتصال قولـه أفلا يتدبَّرون القرآن بما قبله فقيل: إنه يتصل بقولـه ويقولون: طاعة الآية فإن الله اطّلع على سرائر المنافقين ثم بَيّن هنا أنه من جهة علاّم الغيوب ولو كان من جهة غيره لكان المخبر بخلاف الخبر. وقيل: إنه يتصل بقولـه: { وأرسلناك } لما بين إرساله أمر يتدبر معجزة.