التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
٩٥
دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٩٦
-النساء

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل المدينة والشام والكسائي وخلف غيرَ أولي الضرر بنصب الراء والباقون بالرفع.
الحجة: فالرفع على أن يجعل غير صفة للقاعدين عند سيبويه وكذلك قال في
{ { غير المغضوب عليهم } [الفاتحة: 7] أن صفة للذين أنعمت عليهم ومنه قول لُبيد:

وَإِذَا جُوزيت قَرْضــاً فاجْـــزِهِ إنَمَّا يَجْزِي الْفَتى غَيْرُ الجمَلْ

فغير صفة للفتى فعلى هذا يكون التقدير لا يستوي القاعدون الأصحّاء والمجاهدون والنصب على الاستثناء من القاعدين ويستوي فعل يقتضي فاعلين فصاعداً فالتقدير لا يستوي القاعدون إلاَّ أولي الضرر والمجاهدون. قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوباً على الحال فيكون المعنى لا يستوي القاعدون في حال صحتهم، والمجاهدون كما تقول: جاءني زيد غير مريض أي صحيحاً، ويجوز في غير الجرّ على أن يكون صفة للمؤمنين في غير القراءة.
اللغة: الضرر النقصان وهو كل ما يضرَّك وينقصك من عمى ومرض وعلة والدرجة المنزلة ودَرَّجْتُه إلى كذا أي رقيته إليه منزلة بعد منزلة وأدرجت الكتاب طويته منزلة بعد منزلة ودرج الرجل مضى لسبيله لأنه صار إلى منزلة الآخرة ومنه فلان أكْذَبُ مَنْ دَبَّ ودَرَج: أي أكذب الأحياء والأموات.
الإعراب: درجة منصوب على أنه اسم وضع موضع المصدر أي تفضيلاً بدرجة وكُلاًّ مفعول وَعَدَ والحسنى مفعول ثانٍ ودرجات في موضع نصب بدلاً من قولـه: { أجراً عظيماً } وهو مفسر للأجر المعنى فضل الله المجاهدين درجات ومغفرة ورحمة ويجوز أن يكون منصوباً على التأكيد لأجراً عظيماً لأن الأجر العظيم هو رفع الدرجات من الله والمغفرة والرحمة كما تقول لك عليَّ ألف درهم عرفاً مؤكد لقولك لك عليّ ألف درهم لأن قولك لك عليَّ ألف درهم هو اعتراف فكأنَّك قلت: أعرفها عرفاً وكأنَّه قيل غفر الله لهم مغفرة وآجرهم أجراً عظيماً لأن قولـه: { أجراً عظيماً } فيه معنى غفر ورحم وفضل.
النزول: نزلت الآية في كعب بن مالك من بني سلمة ومرارة بن ربيع من بني عمرو بن عوف وهلال بن أُمية من بني واقف تخلَّفوا عن رسول الله يوم تبوك وعذر الله أولي الضرر وهو عبد الله بن أُم مكتوم رواه أبُو حمزة الثمالي في تفسيره. وقال زيد بن ثابت:
"كنت عند النبي حين نزلت عليه { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله } ولم يذكر أُولي الضرر فقال ابن أُم مكتوم: فكيف وأنا أعمى لا أبصر فتغشى النبي الوحي ثم سري عنه فقال: اكتب { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } فكتبتها" .
المعنى: لمَّا حثَّ سبحانه على الجهاد عَقَّبه بما فيه من الفضل والثواب فقال { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } أي لا يعتدل المتخلّفون عن الجهاد في سبيل الله من أهل الإيمان بالله وبرسوله والمؤثرون الدعة والرفاهية على مقاساة الحرب والمشقة بلقاء العدوّ { غير أُولي الضرر } أي إلاَّ أهل الضرر منهم بذهاب أبصارهم وغير ذلك من العلل التي لا سبيل لأهلها إلى الجهاد للضرر الذي بهم { والمجاهدون في سبيل الله } ومنهاج دينه لتكون كلمة الله هي العليا والمستفرغون جهدهم ووسعهم في قتال أعداء الله وإعزاز دينه { بأموالهم } إنفاقاً لها فيما يوهن كيد الأعداء { وأنفسهم } حملاً لها على الكفاح في اللقاء.
{ فَضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } معناه فضيلة ومنزلة { وَكُلاًّ وعد الله الحسنى } معناه وكلا الفريقين من المجاهدين والقاعدين عن الجهاد وَعَدَهُ الله الجنة عن قتادة وغيره من المفسرين وفي هذه دلالة على أن الجهاد فرض على الكفاية لأنه لو كان فرضاً على الأعيان لما استحق القاعدون بغير عذر أجراً وقيل لأن المراد بالكل هنا المجاهد والقاعد من أولي الضرر المعذور عن مقاتل { وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين } من غير أولي الضرر { أجراً عظيماً درجات منه } أي منازل بعضها أعلى من بعض من منازل الكرامة وقيل هي درجات الأعمال كما يقال: الإسلام درجة والفقه درجة والهجرة درجة والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة عن قتادة؛ وقيل: معنى الدرجات هي الدرجات التسع التي دَرَجَها في سورة براءة في قولـه:
{ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوّ نيلاً إلاَّ كتب لهم } [التوبة: 120] { ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } [التوبة: 121] فهذه الدرجات التسع عن عبد الله بن زيد.
{ ومغفرة ورحمة } هذا بيان خلوص النعيم بأنه لا يشوبه غمّ بما كان منه من الذنوب بل غفر له ذلك ثم رحمه بإعطائه النعم والكرامات { وكان الله غفوراً } لم يزل الله غفاراً للذنوب صفوحاً لعبيده من العقوبة عليها { رحيماً } بهم متفضلاً عليهم وقد يسأل، فيقال: كيف قال في أول الآية { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } ثم قال في آخرها { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً } درجات وهذا متناقض الظاهر وأُجيب عنه بجوابين أحدهما: أنَّ في أول الآية { فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر } درجة وفي آخرها { فَضَّلهم على القاعدين غير أولي الضرر } درجات فلا تناقض لأن قولـه: { وكلا وعد الله الحسنى } يدل على أن القاعدين لم يكونوا عاصمين وإن كانوا تاركين للفضل والثاني: ما قاله أبو علي الجبائي وهو أنه أراد بالدرجة الأُولى علوّ المنزلة وارتفاع القدر على وجه المدح لهم كما يقال: فلان أعلى درجة عند الخليفة من فلان يريدون بذلك أنه أعظم منزلة وبالثانية الدرجات في الجنة التي يتفاضل بها المؤمنون بعضهم على بعض على قدر استحقاقهم. وقال: المغربي إنما كرّر لفظ التفضيل لأن الأول أراد به تفضيلها في الدنيا، وأراد بالثاني تفضيلهم في الآخرة وجاء في الحديث:
" "إن الله فضَّل المجاهدين على القاعدين سبعين درجة بين كل درجتين مسيرة سبعين خريفاً للفرس الجواد المضمر"
".