التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ
٢
إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ
٣
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ
٤
أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
٥
رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٦
رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ
٧
لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ
٨
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ
٩
فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ
١٠
يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
١١
-الدخان

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة ربّ السماوات بالجرّ والباقون بالرفع.
الحجة: الرفع فيه على أحد أمرين إما أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السماوات وإما أن يكون مبتدأ وخبره الجملة التي عاد الذكر منها إليه وهو قوله { لا إله إلا هو } ويقوّيه قوله
{ { رب المشرق والمغرب } [المزمل: 9] لا إله إلاّ هو ومن قرأ بالجرّ جعله بدلاً من ربك المتقدم ذكره قال أبو الحسن: الرفع أحسن وبه يقرأ.
الإعراب: إنّا كنّا منذرين جواب القسم دون قوله { إنّا أنزلناه } لأنك لا تقسم بالشيء على نفسه فإن القسم تأكيد خبر بخبر آخر فقوله { إنّا أنزلناه في ليلة مباركة } اعتراض بين القسم وجوابه. أمراً من عندنا في انتصابه وجهان أحدهما: أن يكون نصباً على الحال وتقديره إنا أنزلناه آمرين أمراً كما يقال جاء فلان مشياً وركضاً أي ماشياً وراكضاً وعلى هذا فيكون مصدراً موضوعاً موضع الحال وهذا اختيار الأخفش ويجوز أن يكون تقديره ذا أمر فحذف المضاف كما قال ولكنّ البرّ بمعنى ذا البرّ والثاني: أن يكون منصوباً على المصدر لأن معنى قوله فيها يفرق فيها يؤمر قد دلّ يفرق على يؤمر وقوله { رحمة } منصوب على أنه مفعول له أي أنزلناه للرحمة وقال الأخفش هو منصوب على الحال أي راحمين رحمة.
المعنى: { حم } مرّ بيانه { والكتاب المبين } أقسم سبحانه بالقرآن الدالّ على صحّة نبوّة نبينا صلى الله عليه وسلم وفيه بيان الأحكام والفصل بين الحلال والحرام وجواب القسم { إنّا أنزلناه في ليلة مباركة } أي إنا أنزلنا القرآن والليلة المباركة هي ليلة القدر عن ابن عباس وقتادة وابن زيد وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع). وقيل هي ليلة النصف من شعبان عن عكرمة والأصحّ الأول ويدلّ عليه قوله
{ { إنّا أنزلناه في ليلة القدر } [القدر: 1] وقوله { { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } [البقرة: 185].
واختلف في كيفيّة إنزاله فقيل أنزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزل نجوماً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنّه كان ينزل جميع ما يحتاج في كل سنة في تلك الليلة ثم كان ينزلها جبرائيل (ع) شيئاً فشيئاً وقت وقوع الحاجة إليه. وقيل: كان بدء إنزاله في ليلة القدر وروي عن ابن عباس أنه قال قد كلم الله جبرائيل في ليلة واحدة وهي ليلة القدر فسمعه جبرائيل وحفظه بقلبه وجاء به إلى السماء الدنيا إلى الكتبة وكتبوه ثمّ نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالنجوم في ثلاثة وعشرين سنة. وقيل: في عشرين سنة وإنما وصف الله سبحانه هذه الليلة بأنّها مباركة لأنّ فيها يقسم الله نعمه على عبادة من السنة إلى السنة فتدوم بركاتها والبركة نماء الخير وضدّها الشؤم وهو نماء الشر فالليلة التي أنزل فيها كتاب الله مباركة ينمى الخير فيها على ما دبّر الله سبحانه لها من علوّ مرتبتها واستجابة الدعاء فيها.
{ إنّا كنّا منذرين } أي مخوّفين بما أنزلناه من تعذيب العُصاة والإنذار الإعلام بموضع الخوف ليتّقى وموضع الأمن ليجتبى فالله عزّ اسمه قد أنذر عباده بأتمّ الأنذار من طريق العقل والسمع.
{ فيها يفرق كلّ أمر حكيم } أي في هذه الليلة يفصل ويبيّن والمعنى يقضي كلّ أمر محكم لا تلحقه الزيادة والنقصان وهو أنّه يقسم فيها الآجال والأرزاق وغيرها من أمور السنة إلى مثلها من العالم القابل عن ابن عباس والحسن وقتادة وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى وقال عكرمة هي ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ويكتب الحاج فلا يزيد، فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد.
{ أمراً من عندنا } معناه إنّا نأمر ببيان ذلك ونسخه من اللوح المحفوظ { إنّا كنّا مرسلين } محمداً إلى عبادنا كمن كان قبله من الأنبياء { رحمة من ربك } أي رأفة منا بخلقنا ونعمة منا عليهم بما بعثنا من الرسل عن ابن عباس { إنه هو السميع } لمن دعاه من عباده { العليم } بمصالحهم.
{ ربّ السماوات والأرض } أي خالقهما ومدبّرهما { وما بينهما إن كنتم موقنين } بهذا الخير محقّقين له وهو أنّه { لا إله إلاّ هو } لا يستحق العبادة سواه { يحيي } الخلق بعد موتهم { ويميت } أي ويميتهم بعد إحيائهم { ربّكم } الذي خلقكم ودبّركم ورب آبائكم ودبّركم { ورب آبائكم الأولين } الذين سبقوكم.
ثمّ ذكر سبحانه الكفار فقال ليس هؤلاء بموقنين بما قلناه { بل هم في شكّ } مما أخبرناك به { يلعبون } مع ذلك ويستهزؤون بك وبالقرآن إذا قرئ عليهم عن الجبائي. وقيل: يلعبون أي يشتغلون بالدنيا ويتردّدون في أحوالها.
ثم خاطب نبيّه صلى الله عليه وسلم فقال { فارتقب } أي فانتظر يا محمد { يوم تأتي السماء بدخان مبين } وذلك
" "أنّ رسول صلى الله عليه وسلم دعا على قومه لما كذّبوه فقال: اللهم سنيناً كسني يوسف" " فأجدبت الأرض فأصابت قريشاً المجاعة وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان وأكلوا الميتة والعظام ثم جاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وقومك قد هلكوا فسأل الله تعالى لهم بالخصب والسعة فكشف عنهم ثمّ عادوا إلى الكفر عن ابن مسعود والضحاك. وقيل: إن الدخان آية من أشراط الساعة تدخل في مسامع الكفار والمنافقين وهو لم يأت بعد وإنّه يأتي قبل قيام الساعة فيدخل أسماعهم حتى أنّ رؤوسهم تكون كالرأس الحنيذ ويصيب المؤمن منه مثل الزكمة وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خَصاص ويمكث ذلك أربعين يوماً عن ابن عباس وابن عامر والحسن والجبائي.
{ يغشى الناس } يعني أنّ الدخان يعمّ جميع الناس وعلى القول الأول المراد بالناس أهل مكة وهم الذين يقولون { هذا عذاب أليم } أي موجع مؤلم.